• 8 آيار 2024
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : معين الطاهر 

 

 منذ بداية حرب الإبادة على غزّة، لا يمر يوم من دون أن نقرأ مقالات وتقارير وبحوثاً صادرة عن مراكز الدراسات، على اختلاف تلاوينها، بشأن السيناريوهات المتوقعة لما صار يسمّى "اليوم التالي" للحرب، تتقدّم فيها احتمالاتٌ وتتراجع أخرى، يُجمع أغلبها على ارتباك الموقف الإسرائيلي العاجز حتى اللحظة عن بلورة تصوّر واضح لما سيؤول إليه الأمر بعد انتهاء الحرب؛ هل ستُحتل غزّة ويُفرض عليها حكم عسكري، أم سيحتفظ الاحتلال بنقاط ارتكاز داخلها وعلى محور صلاح الدين، ويكتفي بتقسيمها إلى مناطق ومربّعات، ينطلق منها ومن الحزام العازل بين القطاع ومستوطنات الغلاف في عمليات عسكرية ضد بؤر المقاومة وبنيتها التحتية ومجموعاتها، الأمر الذي تقدّر دوائر الاستخبارات الأميركية أنه سيستغرق بضع سنوات، أم أنه سيعيد بناء مستوطناته التي فكّكها وأخلاها عام 2005، ويقيم إدارة تضم متعاونين معه، وترتبط بإدارة مدنية - عسكرية يشرف عليها ويوجهها ويتحكم في مقاليدها، في نموذج مشابه لروابط القرى التي حاول تأسيسها في الضفة الغربية في منتصف سبعينات القرن الماضي، أم أنه سيعيد السلطة الفلسطينية إلى القطاع، بعد تجديدها وإعادة هيكلتها، ورسم ملامحها، لتتوافق مع اتفاقات أمنية جديدة؟ هل يحاصر غزّة ويعزلها عن محيطها العربي، وتحديدًا مصر، ويفتح طريقاً لهجرة أبنائها عبر الرصيف البحري، أم ينسحب منها تدريجيّا ويرضخ للتوجّهات الأميركية التي تحاول إنقاذ اسرائيل من نفسها ومن تخبّط قياداتها، وعجز حكومتها حتى عن الاجتماع للاتفاق على سياسات ما بعد الحرب، وتحديد أهداف قابلة للتحقيق؟

في الأيام الأولى للمقتلة، أبلغ وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، السلطة الفلسطينية أن عليها الانتظار ثلاثة أسابيع لتنتهي الحرب ويتم تصفية المقاومة ثم تعود هي إلى غزة، إذا تمكنت من ضبط الأمور في الضفة، وقد فعلت ذلك ولا تزال، منذ أكثر من سبعة أشهر، ولم تنتهِ الحرب بعد. اعترضت الحكومة الإسرائيلية على التصوّر الأميركي للاستعانة بالسلطة الفلسطينية وعودتها إلى القطاع، إذ دفعت السياسة الإسرائيلية، على الدوام، باتجاه المحافظة على الانقسام الفلسطيني، وعدم السماح بوحدة غزة والضفة الغربية، واتبعت في سبيل ذلك سياسات مختلفة مع طرفَي الانقسام.

تراجعت الولايات المتحدة عن وعودها، وخرجت بمعزوفة حاجة السلطة الفلسطينية إلى الإصلاح والتجديد، وضرورة إعادة هيكلة أجهزة الأمن الفلسطينية كي تستطيع تأدية مهماتها الجديدة في غزة والضفة، ورأت أن ذلك يحتاج إلى ثلاث سنوات قبل السماح بعودتها إلى المفاوضات الهادفة للتوصل إلى حل الدولتين المزعوم الذي استخدمت الولايات المتحدة حقّ النقض في مجلس الأمن للحيلولة دون تمرير قرار يدعو إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مدّعية أن الوقت المناسب لم يحن بعد.

السيناريو الأكثر وضوحًا حتى الآن هو السيناريو الأميركي الذي يتمسّك بأهداف الحرب الإسرائيلية المتمثلة بتصفية المقاومة، مع الدعوة إلى تغيير الوسائل المتبعة، وتولي قوات عربية ودولية - بدعم لوجستي أميركي - مهمة حفظ النظام في غزّة، والتهيئة لعودة قوات الأمن الفلسطينية إليها، مع مزايا خاصة للجيش الإسرائيلي من حيث حرية الحركة والرقابة وتنفيذ عمليات محدودة، وربط هذه الترتيبات بخطط ترمي إلى تأسيس تحالف إقليمي، يكون الكيان الصهيوني جزءًا منه، في مواجهة النظام الإيراني، مع تطبيع عربي - إسرائيلي واسع، مقابل ما تدعوه حل الدولتين. ولعلنا نعيد إلى الأذهان أن أول من طرح فكرة إرسال قوة عربية إلى غزة (رفضت الدول العربية ذلك حتى الآن) كان معهد واشنطن الذي يعبّر عن سياسة اللوبي الصهيوني، في مقال كتبه دينيس روس وروبرت ماكلوفسكي، بعد ثلاثة أسابيع من بدء حرب الإبادة، مقترحاً تشكيل قوات من الأردن ومصر والمغرب التي ترتبط بمعاهدات سلام مع إسرائيل.

تعاملت هذه السيناريوهات مع الواقع بشكل تقليدي، وتجاهلت الصمود الأسطوري للمقاومة، وانعكاسات الحرب، وامتدادتها في الإقليم، وتأثيرها في الشارع العربي، والحراك في أميركا وأوروبا التي بدأت تشهد تغيّرا في مواقف بعض دولها، والهزات المتوقعة في المجتمع الإسرائيلي، وضعف موقف السلطة الفلسطينية وتراجعه. وتعاملت معها، كما حصل بعد جميع الحروب العربية – الإسرائيلية، أو حتى بعد الاجتياحات المتلاحقة لقطاع غزة، حيث صدرت قرارات بوقف إطلاق النار وافقت عليها مختلف الأطراف، واتُخذت ترتيبات لضمان استمرارها أطول فترة ممكنة. غفلت هذه التوقعات عن رؤية الجانب الفلسطيني فيها الذي قدم أكثر من 150 ألف شهيد وجريح وأسير ومفقود، وغزّة التي دُمرت ولم تعد مكانًا صالحًا للعيش، ما يفرض رؤى مختلفة لهذه الحرب عن سابقاتها، إذ أعادت الحرب على ضراوتها الوعي لأجيال شابة بالقضية الفلسطينية الممتدة منذ أكثر من 100 عام، ولم يعد ممكنا الصمت والسكوت على استمرارها. يقف الفلسطينيون اليوم بين خيارَي تصفية قضيتهم أو بعثها من جديد، ولا توجد منطقة وسطى بينهما، ما قد يعني عدم وجود يوم تالٍ لهذه الحرب بالمعنى المتعارف عليه، وإنما استمرار المقاومة والصراع والسير في خطوات متتابعة حتى تحقيق العدالة والحرية للشعب الفلسطيني. وليست هذا رغبة ذاتية بقدر ما هي تعبير عن ظرف موضوعي تلاحَظ فيه متغيرات كبرى وأشكال نضالية متعدّدة، تقود إلى عزلة الكيان الصهيوني ودحر الاحتلال.

بداية هذه المتغيرات سنشهدها في وضع السلطة الفلسطينة التي لم يعد بإمكانها مرواحة مكانها والبقاء في منزلة بين المنزلتين؛ التعاون مع العدو والرضوخ لمطالبه واشتراطات الرباعية، والاعتراف بالعدو والحفاظ على أمنه، وفي الوقت ذاته ادّعاء تبني مشروع وطني ذابت تفاصيله كلها. على هذه السلطة أن تختار العودة إلى شعبها والتحوّل إلى سلطة خدماتٍ تحافظ على ما تحقق من إنجاز للشعب الفلسطيني، وتعيد الولاية السياسية إلى منظمة التحرير، بعد إعادة بنائها، بحيث تصبح المرجعية الوحيدة لقيادة فلسطينية موحدة، أو أن تنساق وراء العدو فتكون خاضعة لإدارته المدنية العسكرية، وحارسة لأمن مستوطناته. وستكتشف سريعًا أن مهماتها هذه مؤقتة، بانتظار أن يستكمل العدو مخططاته الاستيطانية، ويحوّل الضفة إلى كانتونات منفصلة، فالضفة الغربية تواجه مخاطر لا تقل عن تلك التي تواجهها غزّة أو يواجهها الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1948، ولن يحميها سوى التصدي لرواية العدو ومخططاته، كما لن يحمي أهلنا في فلسطين المحتلة عام 1948 تماهي البعض مع سياسات الأسرلة، وإنما الصمود والتمسك بوحدة الأرض والشعب والقضية، والتصدي الحازم للأبارتهايد والتمييز العنصري، فالمعركة واحدة وإن اختلفت أشكالها وأساليبها. كما ستكتشف السلطة وهم الوعود الأميركية بحلّ الدولتين، وهدفها الرامي إلى كسب الوقت لاستكمال المشروع الصهيوني وتمرير التطبيع العربي. وما ينطبق على السلطة الفلسطينية ينطبق إلى حد كبير على حركة فتح التي ستشهد إرهاصات يستعيد فيها أبناؤها فكرتها التي سُرقت، وتاريخها المجيد الذي حاولت طمسه قيادات عابرة، ما يبشر بإعادة بلورة تيار وطني ديمقراطي يحمي المقاومة ويطور أشكالها ويعزز حراكه في فلسطين وخارجها.

يجب أن يبتعد الموقف الفلسطيني في المرحلة المقبلة عن طرح حلول للقضية الفلسطينية، هو غير معنيٍّ بحل الدولتين ضمن الدائرة التي يدور فيها منذ اتفاق أوسلو وما تبعها، فالمطلوب دحر الاحتلال من المناطق التي احتلها في حرب عام 1967، والمفاوضات لا تجري كما كانت سابقًا على مبدأ الانسحاب وإنما على آلياته فحسب، وهو غير معني أيضًا بحل الدولة الواحدة قدر اهتمامه أن تكون دولة خالية من الصهيونية ونظام الأبارتهايد والتمييز العنصري. ما يهم الشعب الفلسطيني مراكمة النضال كي يتمكن من تغيير موازين القوى وتحقيق العدالة ونيل الحرية، وهذه هو جوهر مشروعه الوطني.

بعد أكثر من 211 يومًا على بدء الحرب، لم يتمكّن العدو من القضاء على المقاومة في غزّة، ولا على مجموعاتها في الضفّة، ولن يتمكن من ذلك مستقبلًا، ولعل الرؤية الفلسطينية تتجاوز مسألة من يدير غزّة التي لن يديرها سوى أهلها، وتتلخّص في استمرار المقاومة بأشكالها المختلفة وحمايتها وتصعيدها في فلسطين كلها، وتنظيم فلسطينيي الخارج أنفسهم، والمحافظة على تمسكهم بحقّ العودة، والعمل مع إخوانهم على إعادة بناء منظمّة التحرير الفلسطينية، واستردادها دورها الوطني الديمقراطي، بمشاركة قطاعات الشعب الفلسطيني وفصائله وقواه الحية، وباعتبار المرحلة الحالية مرحلة تحرر وطني من الاحتلال والصهيونية، والنضال مع جميع القوى الصديقة من أجل عزلة إسرائيل، ومعاملتها بوصفها نطام أبارتهايد وتمييز عنصري، وملاحقة قادتها في المحافل الدولية. آفاق النضال أمام الشعب الفلسطيني أكثر من أن تُحصى، وهي تتسع أمامه بينما تضيق على العدو الذي وإن كان يبدو موحدًا في ظل حرب الإبادة، لكنه سيختنق سريعًا في خلافاته الداخلية. ما نحتاجه اليوم هو موقف موحد، وقيادة واحدة متمسكة بالرواية التاريخية لشعبنا، وانخراط شعبنا كله أينما كان في هذه المعركة المصيرية، مسنودًا بأمته العربية وأحرار العالم.

 

 عن العربي الجديد