• 11 تموز 2025
  • أقلام مقدسية

بقلم : تحسين يقين

 

"السلام على بلادنا، وعلى البلاد السلام، البلاد التي ما زالت تكتب حكايتها من مداد الذاكرة المحفورة في تاريخها". بهذه الكلمات صدرت وزارة الثقافة ملتقى فلسطين للرواية العربية، بما حملت من قيم الوطن والسلام والذاكرة والتاريخ، وبما حمل من دلالة الارتباط بالأرض، حيث تمثل الذاكرة هنا رافعة البقاء والوجود، فقد كنا هنا وما زلنا، ولن نبرح المكان. 

التقاط الأدب للحياة التقاط مدهش، وجاذب، يرينا ما نرى ولا نرى، وهو يفوق حتى التقاط الكاميرا؛ فقد نبع القصّ والحكي والسرد، وكل ما استخدمته الشعوب في رواية حياتها، ليس من منطلق التسلية وتمضية الأيام فقط، بل ولا من أجل التوثيق فقط، بل لعله انطلق من منطلق إنساني وجودي، يتجلى بأن ما كان من حياة لا بد أن يظل حيا، للأحياء القادمين، لتستمر الحياة كأجمل ما تكون.

ثمة علاقة بما تهتم به الشعوب التي تتعرض للاستلاب، وبين فعل الكتابة، وهكذا فقد واكبت الكتابة الأدبية حياة الشعب الفلسطيني على مدار أكثر من قرن، منذ تعرض فلسطين للأطماع، وصولا لنكبتها عام 1948، التي استولدت نكبات مستمرة حتى الآن، حيث نكبة غزة الكبرى.

لذلك لم يكن ظهور الرواية في فلسطين شكلا رياديا قادما من صدفة؛ فقد كان صدور رواية "الوارث" للكاتب خليل بيدس كأول رواية فلسطينية، والتي كتبت عام 1920، دلالة عميقة في التاريخ الأدبي، خاصة في تحليل علاقة التاريخ العام والتاريخ الأدبي وتطور أشكال السرد. وتزداد الأهمية حينما نعرف أن رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل كأول رواية عربية، قد سبقت رواية "الوارث" لخليل بيدس بسبع سنوات، ما يعني ريادة فلسطين في عالم الرواية، وليس في ذلك ما يفاجئ المؤرخون، فقد كانت حواضر فلسطين خاصة حاضرتي يافا والقدس، تقعان ضمن أهم حواضر النهضة العربية الحديثة. لقد كانت فلسطين رائدة في مجالات متنوعة، ولولا نكبة عام 1948، لاستمر التطور الحضاري الى مدى كبير. 

انضم ملتقى فلسطين للرواية العربية للملتقيات الأخرى، أكانت للرواية العربية بشكل عام، أو للرواية في هذه الدولة الشقيقة أو تلك، ليؤكد على تداخل الأدب بحياتنا ومصيرنا القومي، من خلال هوية الملتقى في فلسطين، والهوية العربية.

لذلك نجد أن ملتقى فلسطين الثامن هذا العام جاء تأكيدا على الهوية في الرواية العربية، ما يعني البعد الاستراتيجي والوجودي معا، بما يتعلق بمصير فلسطين والأمة العربية، فكلاهما رواية واحدة وإن تمت وفق فسيفساء الخصوصيات الجمالية المتنوعة؛ ففي استلاب الأرض استلاب للإنسان، وذاكرته، ولعل بعدي المكان والزمان هما الأكثر حضورا وتأكيدا على حياة البشر.

يحمل ملتقى فلسطين للرواية العربية اسم غسان كنفاني، وهو يتزامن مع ذكرى استشهاده في بيروت في الثامن من تموز عام  1972 بعيدا عن مدينته عكا، لما لروايات غسان كنفاني وقصصه من أهمية أدبية ووطنية. ولعل تلك الأهمية تتجلى في موهبة كنفاني في كتابة الرواية التي تحمل الوعي والجمالية معا، بما جعلها تؤثر عميقا في الوجدان والفكر الفلسطيني والعربي. لذلك يحفل الملتقى هذا العام بقراءات جديدة لروايات غسان كنفاني، قادمة من باحثين ودارسي شبابا وشابات، درسوا الروايات من ناحية الأسلوب والمضمون، بما يفتح المجال لإعادة اكتشاف الاحتراف العالي لدى كنفاني في الكتابة المكثفة التي استخدمها، لتكون شيفرات دائمة لفهم الإنسان الفلسطيني في ظل هذا الصراع الطويل. وليس هذا فقط، بل يتم عرض لوحات فنية تشكيلية تم استلهامها من روايات غسان كنفاني، وبذلك فقد لبت وزارة الثقافة منظمة ملتقى فلسطين للرواية العربية وعدها قبل عامين حين تم اقتراح تضمين الملتقى بمعرض فني.

في ملتقى فلسطين الثامن، الذي يصله عن الملتقى السابع الحرب البشعة على غزة، وعلى شمال الضفة الغربية، التي ما زالت مستمرة في سياق الإبادة، فإنه يمثل أحد أشكال مقاومة الإبادة الثقافية المرتبطة بالشعب العربي الفلسطيني. وهكذا فإن الاحتلال الذي تضرب آلته العسكرية المدنيين لإزالتهم من وطنهم، فإن وجودهم يزداد سطوعا هنا وفي العالم أيضا. لقد سررنا فعلا بإقامة الملتقى كفعل مقاوم، يؤكد على استمرار الرواية الفلسطينية، واستمرار الرواة.

لقد صدر عدد من القصص والروايات التي كان مكانها قطاع غزة، والتي كان جزءا من زمانها آخر عامين، بينما يتم الآن لدى روائيين وروائيات نعرفهم ولا نعرفهم كتابة روايات تنتمي للرواية الجديدة، التي سترتبط بأكتوبر 2023، والتي نزعم أنها ستأتي بإبداعات جديدة، تنسجم مع التحولات التي تمت خلال عامين، وما سوف يتلوهما. أي إننا أمام عقدين كاملين وربما أكثر، ستتأثر فيه الرواية الفلسطينية (والعربية) بما كان ويكون، حيث ستمثل الحرب وصمود الشعب الفلسطيني أداة تغيير للشكل التقليدي الآن، ربما يذكرنا بما جدّ من حداثة أدبية وفنية (جماعة السينما الجديدة في مصر، والتجريب المسرحي في فلسطين)، حيث من الممكن أن تشكل الحرب صدمة للمبدعين الباحثين عن شكل أدبي وفني يتجلى فيه المضمون الإنساني لشعب يباد.

وفي ظل الحضارة والهمجية، فإن الملتقى دعوة للكتاب والكاتبات في بلادنا العربية لتأمل فعل الحضارة وفعل التدمير، فيكون الأدب العربي مقاوما للاحتلال والاستلاب والإبادة.

وهكذا، تعيدنا ملتقيات الرواية الى تأمل هذا الشكل المتكامل الذي مثّل أهم تطور أدبي في تاريخ الأدب العالمي، لذلك فإن تأمل ما وصلت له أشكال السرد في الأدب والفنون التمثيلية والمرئية، يؤكد دلالة إنسانية وحضارية في آن واحد، يتعلق باستفادة الكتاب من إنتاجات الحضارات، وتلك هي قصة الحضارة، وهي قصة الأدب، وبالطبع هي تاريخ الرواية. وهكذا فإن دراسة كل أمة لها ثقافة خاصة لأشكال السرد المختلفة، يدلنا على أن هناك خيطا سحريا تشابه به الرواة مع تطور المجتمعات باتجاه العلم، ودليل ذلك هو اتفاق العالم على الرواية كشكل أدبي يلائم الشعوب كافة.

وبذلك، فإن الاحتلال سيجد نفسه، وهو المدجج بالأسلحة المتطورة خارج الحضارة الإنسانية، وسيجد شعب فلسطين نفسه باقيا في التاريخ الحضاري باتجاه مستقبل مشرق، يكون للأدب فيه دور إنساني.