• 25 تموز 2025
  • أقلام مقدسية

 

 

 

بقلم : نافذ عسيلة

 

مع استمرار التصعيد الإسرائيلي باتجاه ضم الضفة الغربية، تتصاعد تساؤلات أساسية حول مستقبل المجتمع الفلسطيني الذي يقطن هذه الأرض. فالضم لا يعد فقط تغييرًا في الخارطة السياسية، بل يمثل عملية عميقة تستهدف البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تبلورت عبر عقود طويلة. وتنعكس آثار هذا التحول على تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين وعلى آلياتهم في مقاومة سياسات التهجير والاستيطان، ومن أجل فهم الأبعاد الإنسانية لهذه السياسات، لا بد من النظر إلى تجارب السكان المباشرة، والتغيرات التي طرأت على علاقتهم بالأرض والهوية، إلى جانب الطرق التي يعتمدونها من أجل الحفاظ على وجودهم رغم الظروف القاسية.

من المتوقع أن يؤدي مشروع الضم إلى تعميق العزلة بين التجمعات الفلسطينية، نتيجة التوسع الاستيطاني وبناء الطرق الالتفافية، ما يؤدي إلى تفتت الجغرافيا الفلسطينية وإضعاف الروابط الاجتماعية والعائلية. كما يؤدي إلى تشديد القيود على حرية الحركة، وزيادة عمليات مصادرة الأراضي، الأمر الذي قد يدفع بالكثير من الفلسطينيين إلى الهجرة القسرية أو التخلي عن أراضيهم، في تهديد مباشر للهوية المتجذرة في العلاقة مع المكان.

في المقابل، قد ينتج هذا الواقع القهري حالة من التمسك المتجدد بالهوية الوطنية، ويعزز الوعي الجماعي بحقوق الفلسطينيين التاريخية. ويتوقع أن تتبلور أشكال جديدة من المقاومة اليومية، لا تقتصر على العمل السياسي، بل تمتد إلى المبادرات المجتمعية، والتعليم البديل وحماية الذاكرة الجماعية، وتطوير ممارسات زراعية واقتصادية مقاومة للظروف المفروضة. كما قد يسهم هذا التحدي في خلق شبكات تضامن محلية ودولية تعزز من حضور القضية الفلسطينية على المستوى العالمي.

أما السيطرة الإسرائيلية على الموارد الأساسية، مثل المياه والأراضي الزراعية، فهي تؤدي إلى تدهور الاقتصاد الفلسطيني، لا سيما في المناطق الريفية، ما يفضي إلى تفشي البطالة والفقر، ويدفع العديد إلى العمل داخل المستوطنات أو في السوق الإسرائيلي ضمن ظروف غير منصفة، ما يكرس التبعية الاقتصادية ويضعف إمكانيات النمو الذاتي. كما أن القيود المفروضة على التنقل تؤثر سلبًا على قطاعات رئيسية مثل الزراعة والسياحة والتعليم، وتزيد من العوائق أمام الاستثمارات المحلية.

في هذا السياق، تتراجع الثقة بمستقبل اقتصادي مستقر، ما يدفع الشباب إلى الهجرة أو الانخراط في أنشطة محفوفة بالمخاطر، وتتضرر النساء على وجه الخصوص نتيجة تقلص الفرص في قطاعات العمل التقليدية مثل الزراعة والصناعات الحرفية. كل ذلك يعيد رسم المشهد الاجتماعي والاقتصادي، ويفرض تحديات تتطلب حلولًا مبتكرة تعتمد على مبادرات محلية وتعاونيات إنتاجية ونماذج تعليم مهني مرنة ومستقلة.

من الناحية القانونية، فإن الضم قد يؤدي إلى إخضاع الفلسطينيين لنظام تمييزي يصنفهم كسكان بلا حقوق كاملة، سواء تحت الحكم العسكري أو كـمقيمين بلا مواطنة، وهو ما يفاقم من الشعور بالتهميش وعدم الأمان، ومن المتوقع تصعيد السياسات الأمنية في المناطق المصنفة وفق اتفاقيات أوسلو أ، ب، ج، حيث تتزايد حملات الاعتقال وتفرض قيود صارمة على البناء والتنقل، مما يدفع بعض السكان إلى النزوح الداخلي أو مغادرة المنطقة بالكامل.

فشل السلطة الفلسطينية في التعامل مع تداعيات الضم أو تقديم بدائل واقعية قد يضعف من مكانتها، ويدفع شرائح مجتمعية إلى فقدان الثقة في مؤسساتها الرسمية، ويسهم في تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية. وقد تستغل قوى مختلفة هذا الفراغ لتوسيع نفوذها، ما يشكل تهديدًا إضافيًا لوحدة النسيج الوطني.

في الوقت ذاته، قد يسهم هذا الواقع في نشوء وعي سياسي جديد، خصوصًا بين فئة الشباب، يدفعهم نحو بناء حركات مدنية تطالب بالشفافية والعدالة والتمثيل الحقيقي، مع توجه أكبر نحو تفعيل أدوات القانون الدولي، والضغط من خلال الحملات الحقوقية على الصعيد العالمي.

أما التوسع الاستيطاني، فهو لا يهدد فقط الجغرافيا والسكان، بل يمس الرموز والمعالم الثقافية الفلسطينية. فالمواقع التاريخية والقرى والتلال والمزارات الدينية قد تتحول تدريجيًا إلى رموز إسرائيلية في محاولة لفرض سردية مغايرة وإعادة كتابة التاريخ. وهذا يشكل خطرًا مباشرًا على الذاكرة الجماعية ومحاولات محو الهوية الفلسطينية.

ردًا على ذلك، تمارس المجتمعات الفلسطينية مقاومة ثقافية نشطة، تتجلى في توثيق الروايات الشفوية، وإحياء الفنون الشعبية، والمسرح، والأدب، وتعزيز المناهج التعليمية التي ترسخ الرواية الفلسطينية. كما تنشط مبادرات لحماية الأماكن التاريخية من خلال الترميم وتنظيم الفعاليات الثقافية واستخدام الوسائل الرقمية مثل الخرائط التفاعلية والأفلام الوثائقية والأرشيفات البصرية.

في ظل هذا التهديد المستمر، تصبح الثقافة أداة مركزية في النضال، ومنصة للتعبئة الاجتماعية، والتواصل مع العالم وتشكيل شبكات تضامن تتعامل مع القضية الفلسطينية كجزء من نضال أوسع من أجل العدالة وحقوق الإنسان.

وفي سياق متصل، فإن إغلاق المعابر وبناء الجدار العازل يفاقم من عزلة المناطق الفلسطينية، خاصة تلك النائية مثل الأغوار، ما يعيق الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية وفرص العمل وتتفاقم الفجوات التنموية، وتعمق حالة التهميش الاجتماعي، ما يضعف التماسك المجتمعي، ومع تطبيع واقع الضم، تزداد وتيرة العنف من قبل المستوطنين والقوات الإسرائيلية، ويصبح الإحساس بالخطر وعدم الأمان جزءًا من الحياة اليومية، خصوصًا للفئات الأكثر هشاشة كالأطفال والنساء.

الضم، في جوهره، ليس مجرد إجراء سياسي، بل مشروع لإعادة هيكلة الحياة الفلسطينية تحت نظام تحكم مشدد، ومع ذلك، يواصل الفلسطينيون ابتكار وسائل متنوعة للصمود، قد تتضمن أشكالًا من المقاومة الشعبية وأخرى مسلحة. كما تشهد السرديات الوطنية تطورًا مستمرًا وتعمقًا، كرد فعل مباشر على محاولات محو الهوية، إلا أن هذا المسار لا يخلو من كلفة نفسية واجتماعية عالية، تتمثل في تصاعد مشاعر الإحباط والانقسامات الداخلية، وازدياد التوترات داخل المجتمع وبين الأجيال المختلفة.

وفي ظل غياب أفق سياسي واضح، قد تنشأ أشكال جديدة من التنظيم الأهلي غير الرسمي، قائمة على التضامن وتبادل المهارات وإنتاج المعرفة المحلية، ما يسهم في بناء شبكات مقاومة غير عنيفة قادرة على الاستمرار، وتعزيز قدرة الفلسطينيين على الصمود في وجه واقع الضم.