- 11 آب 2025
- أقلام مقدسية
بقلم : داود كتاب *
منذ أكثر من 21 شهراً، تردّدت معظم وسائل الإعلام الدولية في تغطية حرب إسرائيل على غزّة بدقّة ووضوح، فجاءت التغطية بطيئة وحذرة، وغالباً ما دُفنت تحت إطار "كلا الجانبين". لكن شيئاً تغيّر حين ظهرت صور الأطفال الفلسطينيين الجائعين: وجوه شاحبة، وأطراف هزيلة، ونظرات فارغة. لم يعد بالإمكان إنكار حقيقة الحصار والمجاعة، وفجأة لم يستطع الإعلام الغربي أن يُشيح بصره تماماً.
جاء ردّ إسرائيل سريعاً عبر آلة "الهاسبارا" الدعائية، التي لا تكتفي بمخالفة الحقائق، بل بمحاولة محوها. بدأت وسائل الإعلام الموالية لتل أبيب "تفنّد" أدلة المجاعة، مدّعية أن ما يُرى ليس حقيقياً، وأنها "دعاية حماس"، وكأن الأخيرة خدعت وكالات الإغاثة والأطبّاء والصحافيين. وبلغت السخرية ذروتها حين استغلّت إسرائيل صورة لطفل هزيل، زاعمة أن مرضه (لا الجوع) هو السبب، وكأنّ ذلك يبرّر المشهد المروّع. هذه الاستراتيجية لا تهدف إلى الإقناع، بقدر ما ترمي إلى إنهاك الجمهور بالجدل، بحيث تتحوّل كلّ صورة إلى مادّة خلافية، ويدفع المُحرّرون لتقديم "رأي مقابل"، حتى لو كان يناقض الوقائع.
النتيجة: الحقيقة تغرق في الضباب، ويتراجع الضغط على إسرائيل. ومع ذلك، يصرّ الخطاب الرسمي الإسرائيلي على أن ما يجري "ليس مجاعة". الفارق الوحيد بين غزّة والمجاعات السابقة في إثيوبيا أو الصومال أو اليمن أن هنا قوة عسكرية متقدّمة تحاول إقناع العالم أن عينيه تخدعانه.
تخيلوا تقريراً عن الطقس يقول فيه مصدر: "إنها تمطر"، وآخر: "لا، الجو مشمس"، بينما الجميع يقف تحت المطر الغزير. غزّة هي تلك الحقيقة الماثلة، ومع ذلك تصرّ معظم وسائل الإعلام الغربية على نقل ما يقوله "خبير الأرصاد الجوية في تل أبيب".
كلّ تقرير صادق يقابله وابلٌ من رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات والتشهير عبر وسائل التواصل، بهدف إثارة الشكّ بما يكفي إلى دفع المُحرِّرين إلى التراجع. لكن القول: "هو ليس جائعاً، بل مريض"، ليس تبرئة، بل اعتراف. فطفل يعاني مرضاً سابقاً ويصل إلى حدّ الهزال يعني أنه حُرم من الغذاء والرعاية الطبّية معاً. هذا تجويع وقتل طبّي متلازمان.
لا يقتصر التواطؤ على الحكومات، بل يشمل أيضاً كبريات غرف الأخبار، وفي مقدمتها "نيويورك تايمز"، التي كثيراً ما تُقصي الأصوات الفلسطينية،حتى في الاخبار السياسية و في تناقض صارخ مع دليلها المُعلَن للصحافة الأخلاقية.
ففي تحليل نشرته في 3 أغسطس/ آب الجاري عن اعتراف دول أوروبية بفلسطين، اقتبس الكاتب من وزير الخارجية البريطاني، ومن أكاديمي بريطاني ودبلوماسيين إسرائيليين وفرنسيين، من دون أي صوت فلسطيني أو عربي، رغم أن الموضوع يتعلّق بحقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني. كان من الممكن بسهولة تضمين رأي أكاديمي فلسطيني بارز، مثل الأستاذ رشيد الخالدي او غيره، لكن ذلك لم يحدث.
يعاني الصحافيون الفلسطينيون داخل غزّة (وحدهم يغطّون الأحداث منذ حظرت إسرائيل الإعلام الأجنبي وقتلت أكثر من 200 منهم) الجوع نفسه الذي يعانيه من يغطّون أخبارهم. وفي بيان مشترك نادر، حذّرت "بي بي سي" و"فرانس برس" و"أسوشييتد برس" من أن طواقمها تواجه الظروف ذاتها.
وفي ذروة الغضب على الصور، سمحت إسرائيل بدخول كمّيات ضئيلة من المساعدات: بعض عمليات الإنزال الجوي و30 إلى 50 شاحنة يومياً، بينما تؤكّد الأمم المتحدة الحاجة إلى 500 أو 600. بعض الشاحنات لم تصل أصلاً بعدما منعها متطرّفون يهود. وفي الوقت نفسه، فُرضت آلية توزيع موازية عبر مقاولين أميركيين مُعتمَدين من إسرائيل، أوجدوا عمداً ظروفاً خطيرة وفوضوية تؤدّي إلى قتل الفلسطينيين الجائعين برصاص جنود الاحتلال. ورغم ذلك كلّه، يظلّ الإنكار قائماً. الموقف الرسمي: "ليست مجاعة"، بل شيء آخر غير محدّد، ولكنّه بالتأكيد ليس جريمة حرب (!). ومع أن العالم شهد مجاعاتٍ، فإن صور غزّة تنتمي إلى الفئة نفسها، مع فارق أن دولة قوية تتعمّد إنكار ما تفعله.
ليس الهدف إقناع العالم بعدم وجود الجوع، بل زرع الشكّ لشلّ الغضب. وكلّ غرفة أخبار تتجنّب كلمة "مجاعة" تصبح شريكاً غير مباشر. ليست المجاعة في غزّة ضرراً جانبياً، بل أداة حرب، تُقاس بالسعرات الممنوعة، والشاحنات الممنوعة، والحقول المدمّرة. تعتمد إسرائيل على السيطرة على الكاميرات والحدود، وتمنع حتى الصحافيين المرافقين لرحلات إسقاط الطعام من تصوير الدمار. للحظة قصيرة، اخترقت صور الفلسطينيين الجائعين جدار الدعاية، ما دفع إلى تقديم تنازلات محدودة. لكن الحصار مستمرّ، والجوع يشتدّ، والقتل الجماعي يتّسع. وأخيراً، مع إعلان إسرائيل هجوماً برّياً جديداً لاحتلال مدينة غزّة، تتفاقم الإبادة الجماعية.
وفق ميثاق الصحافة المهنية يفترض الحفاظ على الحياد. لكن الحياد لا يعني إقصاء طرف كامل من القصّة، خصوصاً إذا كان هو الضحية المباشرة. تجاهل الصوت الفلسطيني، في لحظة تاريخية تشهد مجاعة وقتلاً جماعياً، يجعل أي تغطية ناقصة بطبيعتها. اليوم، ومع استمرار الحصار والجوع، ومع اقتراب الهجوم البرّي، يزداد خطر الإبادة. سيسجّل التاريخ أسماء الأطفال الذين ماتوا جوعاً، وأسعار الدقيق والسكّر، وشاحنات الإغاثة التي عادت أدراجها، كما سيسجّل كيف تجاهلت بعض الصحف (وسط المطر الغزير) أن السماء كانت تمطر حقّاً.
*عن العربي الجديد