• 25 آب 2025
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : تحسين يقين

 

كنا نحسب أن زراعة شجرة الصبر تكون في فصل الزراعة، أي الشتاء، شباط منه، حيث تبدأ الأرض، بالدفء، وهكذا راح أخي "نصار" يزرع "ألواح" الصبر للتكثير منه خصوصا حول حدود كروم العنب، لكن لم تنم براعم الصبر، كوننا "عنابيين" نفهم بزراعة العنب لا الصبر، حتى قيل لنا بأن الصبر يزرع في الصيف، أو هكذا فهمت، لكن الذي عرفته أن بالإمكان تقسيم "لوح الصبر" الى أربعة أقسام، فكل قطعة من اللوح تكفي لتنبن منه شجرة صبر. وهكذا فعل أخي. ولم تمض إلا بضع سنوات حتى استمتعنا بصبرنا الجديد، المضاف إلى أشجار الصبر في "عين سلمان" تلك الأشجار التي كانت مزدهرة منذ طفولتنا، تلك التي زرعها الأجداد في بيت دقو من قرن وأكثر.

كم دهشت وما زلت كذلك من طريقه زراعة الصبر، فكيف تصير كل مفردة شوكية شجرة تغرس نفسها في التراب وتنمو؟ كيف تكتمل المفردة لتصير شجرة!

يواصل أبناء شعبنا وبناتنا العيش في الوطن والشتات، فكل وفلسطينه؛ فلسطين الضفة الغربية، فلسطين قطاع غزة، فلسطين عام 1948، فلسطين الشتات وبتفاصيل أماكنه. وفي ظل الفصل والعزل، صارت القدس لها وضع خاص، صارت فلسطين أخرى، وصار فلسطين شمال الضفة ووسطها وجنوبها، كل مكان في فلسطين يصير فلسطين، وكل فلسطينيين خارج فلسطين هم فلسطين، وهكذا كبرت فلسطين، وستظل تكبر.

في طفولتنا، نحن المولودون عام هزيمة عام 1967، وما قبله وبعده، رأينا في الضفة الغربية لنهر الأردن فلسطين، ثم حين عرفنا أن هناك فلسطين أخرى كان الكبار يتحاشون ذكرها لما يفيض الذكر من حزن، فصرنا نتعلم خارج المناهج التي خضعت للرقيب العسكري، عن فلسطين أخرى، وكم استمعت بفرح عجيب لما روته شقيقتي يسرى وشقيقي سعيد حين زاروا يافا في أواسط السبعينيات، حاملين لنا "صدف البحر"، فرحت أتأمل الصدف وأسمع وشوشة الأمواج، ثم عرفت خارج المناهج المراقبة "غزة"، وما أدهشني أنها على البحر، ودهشت أكثر أن هناك من زارها فعلا، فتمنيت رؤيتها، ولم تمر غير بضع سنوات حتى كنت على شاطئ حيفا، وهناك وجدتني مسحورا بالبحر وحيفا. ولكن تأخرت زيارتي لغزة. وكلما كبرت صرت أزداد معرفة وفرحا بفلسطين الكبيرة، وبالرغم من الاحتلال الذي خبرناه هنا، إلا أنني حتى الآن لم أكن أشعر فعلا به، كأنني لا أستشعره، كأنني لا أريده، حتى أثناء تسللنا الى البلاد كنت أمشي "واثق الخطوة"، غير متلفت يمينا أو يسارا، فتلك بلادي.

الفلسطيني "واثق الخطوة يمشي ملكا" في فلسطين، ولي مع أول الشباب أن أنتصر على الغزاة بسؤال صغير: من أين أتيتم، وحين يجب الغزاة وأبناؤهم وأحفادهم، ابتسم فيشعر (الآخر الغريب المحتل بقوة السلاح) بالحرج أو الغضب أو كيهما. سأعرف أكثر في الطفولة حين ألعب مع أحفاد أقربائنا اللاجئين من "سريس"، من عائلتي أبو حبسة ونافع، فأسمع أول مرة عن المخيم، مخيم قلنديا، وهو غير قرية قلنديا التي يوجد المطار على أرضها، فيقضي مروان وخالد، جزءا من العطلة الصيفية في بيت دقو، فنحن أخوال الأمهات القادمات من سريس عام 1948، وحين نذهب إلى الكروم، يسعد مروان بالعنب، وما زالت عبارته في رأسي حين تخيل وجود أولاد المخيم هنا في كروم العنب.

ونكبر وتكبر فلسطين، ونشترك في مظاهرات  السبعينيات والثمانينات ضد مشاريع الحلول، ولا أثق بحسن نوايا الاحتلال، لا تجاه بلادنا ولا تجاه بلادنا العربية، ثم لأرى مثلي مثل أبناء العروبة، بأن أماننا ليس في أيدينا فعلا، وأن فرقتنا زادت من الخوف من الاستعمار. وسأبتسم ساخرا حزينا من "بوح نتنياهو" عن دولته الكبيرة بين الماء وبين الماء، التي تتحقق في الجوهر للأسف الشديد، فأجدني زاهدا في إكمال الخبر ذاهبا إلى كروم العنب المثمرة، مطلا من جبال القدس الغربية على الساحل الذي صرنا نعرفه من غزة إلى رأس الناقورة، فأجد الوطن كما عرفته وما أرت أن أراه.

الوطن تراب، وحجر على حجر، "سنسلة" جدار، استنادي يقي التراب من التسرب، وهو "عشب على حجر" في قصيدة محمود درويش. الوطن زراعة وثقافة، وتربية عليهما؛ فحين نستمر بزراعة أرضنا، التي بين أيدنا يزداد الأخضر في بلادنا، فيزداد الظل والنسمات الباردة. وتقوى الأبدان بالفواكه والخضار البلدية، و"يعنّ" لنا أن نغني القوالب اللحنية الفلسطينية. فكل فلسطيني وقالبه الغنائي، ولي أن أغني كثيرا: يا ظريف الطول وقف تاقولك رايح ع الغربة وبلادك احسن لك خايف يا ظريف تروح وتتملك وتعاشر الغير وتنساني أنا".

وهكذا ظلت فلسطين واحدة وبلاد الشام، تلتئم المفردات في الأماكن، مثل أفلام الرسوم المتحركة وأفلام الخيال العلمي، فكل ما يفعله الاحتلال من أمر واقع بإرهاب الدولة الرسمي المنظم مع سبق الإصرار والترصد، سيظل وقتيا، وما قيل "اللي بضحك بضحك بالآخر"، لسبب بسيط إن دولة الاحتلال "مش جايتيها وجي".

منذ عام 1994، كان الاحتلال ينظر لكل عبارة فيها فلسطين تحريضا، حتى إن دبكنا وغنينا، وفي مرة قبل اتفاق أوسلو، في حوار قصير مع أحد جنود الاحتلال، كنا الاثنان عشرينيين، كان يطارد الأطفال، ويطلب منهم إنزال علم فلسطين، قلت له أنت من إسرائيل قال نعم، وأشرت لعلم الاحتلال على ملابسه العسكرية قائلا هذا علمك، فقال نعم، فقلت ونحن لسنا إسرائيليين وهذا علمنا، فلماذا تلاحق الأطفال!

كلما حاورت محتلا، بقليل من العبارات أهزمه، فنحن شعب عريق يعيش على أرضه، تلك التي خبرنا ترابها المتنوع اللون والرائحة، وعيونها، وزهرها البري وأزهار الشجر. لذلك يلجأ المحتل دوما لمنطق القوة والإرهاب، وهكذا فهو يريد أن يحسم وجوده بنفينا، وهو يعرف جيدا أنه لن ينجح، فلماذا لا يفكر بعقلانية ويجنح مرة جادة للسلام الذي يضمن الكرامة؟

ما أصعب أن نعيش بعقد قديمة أفرادا وجماعات ودول، ولعل الأصعب هو عقد الاحتلال المندمج بأساطير لا تتحرج من انتهاك القوانين الأرضية والسماوية كلها.

والآن، ليس أمام الاحتلال إلا أن يحرر نفسه من العقد والتعقيد؛ ففلسطين لا تصغر ولا تنكمش، رغم سياسة العزل والفصل، في حين أن من ينكمش هو الاحتلال، فحتى لو توسع، فإنه يضيق.

أما نحن، في فلسطين  الضفة وغزة والشتات، فلنا أن نواصل البقاء الطبيعيّ، نزرع ونحصد ونعلم ونغني واثقين بأنفسنا دون ارتباك حتى لو ارتبك الإقليم وما بعده، فلنا في هذا الوجود قوة، والسماء واسعة والأرض، فمشرق الشمس جميل ومغربها جميل، وماء آبار الجمع عذب، والخبز الذي نأكله مع حبات العنب الدابوقي ساحر.