• 3 أيلول 2025
  • أقلام مقدسية

 

بقلم:  د. سليم أبو ظاهر 

 

منذ احتلال القدس الشرقية عام 1967، اتبعت إسرائيل نمطاً خاصاً من الحكم يمكن وصفه بالاستثناء الحضري». فالمدينة ضُمّت رسمياً لتكريس السيادة الإسرائيلية، لكن من دون إدماج حقيقي للفلسطينيين أو توفير خدمات متكافئة لهم. على العكس، ظلّت السياسات مزيجاً من الإهمال الإداري والتسامح الانتقائي مع وجود بعض المؤسسات الفلسطينية، بما يخدم هدفاً مزدوجاً: فرض السيطرة بأقل تكلفة، وتفادي الاندماج الكامل للسكان الأصليين في منظومة الدولة.

إلا أن هذا النموذج أخذ في العقدين الأخيرين منحى مختلفاً تماماً، حيث انتقل من «الاستثناء» إلى «الإقصاء الممنهج». لم تعد السلطات الإسرائيلية تحتمل وجود مؤسسات فلسطينية تعبّر عن هوية المدينة أو عن حق الفلسطينيين في البقاء. فبيت الشرق»، الذي كان يوماً رمزاً للتمثيل السياسي، ما يزال مغلقاً منذ سنوات، فيما تواجه النقابات المهنية والجمعيات الأهلية قيوداً مشددة على التمويل والنشاط. حتى المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأوقاف الإسلامية، تتعرض لملاحقة متزايدة واقتحامات متكررة للحرم القدسي، في محاولة لتقويض دورها التاريخي.

بالتوازي، تُستخدم سياسات سحب الإقامة كأداة مركزية في إعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية. فمنذ عام 1967، فقد أكثر من 14,500 فلسطيني حق الإقامة في القدس، بينما يواجه عشرات الآلاف ممن يعيشون في أحياء محاصرة خلف الجدار خطر الطرد الإداري في أي لحظة. وإلى جانب ذلك، تتصاعد سياسة هدم المنازل والمنشآت. حيث أقدمت القوة القائمة بالاحتلال على هدم أكثر من ألفي منشأة فلسطينية منذ مطلع سنة 2010، معظمها بذريعة عدم الترخيص، مع أن الحصول على ترخيص بناء للفلسطينيين يكاد يكون مستحيلاً بفعل القيود المفروضة ضمن المخططات الهيكلية الإسرائيلية.

هذه المخططات تكشف بوضوح عن جوهر السياسة الإسرائيلية: تضييق الخناق على البناء الفلسطيني مقابل التوسع الاستيطاني المنهجي. والمثال الأبرز هو مشروع E1، الذي يسعى لربط مستوطنة معاليه أدوميم بالقدس الغربية.

القدس، بهذا المعنى، لم تعد مجرد مدينة محتلة أو ساحة للتنازع على السيادة، بل تحوّلت إلى مختبر لتجريب أدوات الحكم الاستعماري في المدن.

إن خطورة ما يحدث في القدس لا تكمن في حجم الإجراءات فقط، بل في نوعيتها؛ فهي تمثل انتقالاً من منطق استثناء مؤقت إلى إقصاء دائم، ومن «التغاضي» إلى «التنظيم الممنهج للغياب». 

ورغم هذه السياسات، يظل الحضور الفلسطيني عصياً على المحو. فكل عملية هدم تقابلها مبادرات مجتمعية لإعادة البناء أو التضامن، فالمدينة التي يراد تحويلها إلى فضاء بلا ذاكرة وبلا سياسة، تستعيد ذاتها يومياً عبر مقاومة سكانها وارتباطهم العميق بأرضهم. ومع ذلك، يبقى سؤال المستقبل مفتوحاً: هل يمكن لمشروع يستند إلى محو الجغرافيا والذاكرة أن ينجح فعلاً؟ أم أن جذور المدينة، بتاريخها وأهلها، ستظل عصيّة على الاقتلاع؟

الدستور الاردنية