• 16 أيلول 2025
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : نافذ عسيلة

 

مع استمرار الاحتلال، تبرز قمة الدوحة العربية الإسلامية كمحطة إضافية في سلسلة طويلة من الاجتماعات التي تملأ الفضاء بالبيانات والتصريحات، لكنها لا تترك أثراً ملموساً في واقع الفلسطينيين. بينما تصدح المنصات بخطابات رنانة، يواصل الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس صراعه اليومي مع الحصار والاستيطان والتهجير، حيث يصبح البقاء نفسه عملاً مقاوماً.

هذه القمم، في وعي الكثير من الفلسطينيين، باتت طقوساً مكررة، مألوفة إلى درجة أن التوقعات منها أصبحت شبه معدومة. الوجوه ذاتها، العبارات ذاتها، والنتائج دائماً لا تتجاوز حدود الورق. يتابعها الناس بشيء من الترقب المختلط بالسخرية، وقد ترسخت قناعة عامة بأن ما يقال لا علاقة له بما ينفذ. الدعوات إلى قطع العلاقات لا تقترن بخطوات فعلية، ما يجعلها تبدو كأنها موجهة للكاميرات لا للواقع.

في غزة، حيث الجوع والكهرباء المقطوعة وغياب العلاج، وفي القدس، حيث تنتزع العائلات من بيوتها، لا أحد ينتظر من القمم تغييراً حقيقياً. فالمعاناة اليومية لا تتأثر بما يقال في القاعات الرسمية، بل غالباً ما تتحول إلى مادة للخطاب دون أن تكون أولوية في الفعل. ومع تكرار هذه المشهدية، تتكرس فكرة أن الشجب نفسه قد تم تطبيعه، وأصبح جزءاً من نظام عربي معتاد على الكلام دون التزام.

الخطاب العربي التقليدي بات ينظر إليه كمجرد غطاء شكلي، بينما تستمر العلاقات السياسية والاقتصادية مع الاحتلال في العلن وأحياناً في الخفاء. هذا التناقض بين الأقوال والأفعال يزيد من شعور الفلسطينيين بأنهم وحدهم في المعركة، وأن دعمهم، حين يأتي، يكون غالباً رمزياً لا عملياً.

على الأرض، تكشف تفاصيل الحياة اليومية عن واقع يناقض تماماً ما تسعى القمم إلى تصويره. الاستيطان يتسارع بلا هوادة، الحواجز تقيد التنقل، حملات الاعتقال لا تتوقف، وما يتعرض له قطاع غزة من قصف وابادة وحصار يبدو وكأنه مصير مفروض لا نهاية له. أمام هذا المشهد، تبدو خطابات التضامن أشبه بوعود فارغة، وتظهر الهوة الواسعة بين الكلام الرسمي والحقائق القاسية التي يعيشها الناس يومياً.

في المقابل، تبرز المقاومة اليومية كبديل واقعي وملموس عن الغياب العربي الرسمي. لا تحتاج هذه المقاومة إلى بيانات أو مؤتمرات، بل تنمو من داخل الحياة نفسها، من إعادة بناء بيت هدم، من تمسك فلاح بأرضه، من طفل يعبر الحاجز ليصل إلى مدرسته، ومن أم تحرس بقاء عائلتها تحت القصف. هذه الأفعال، البسيطة في ظاهرها، تملك قوة تراكمية تصنع فرقاً حقيقياً، وتعيد تعريف مفهوم النصر.

النصر لم يعد يرتبط بخطاب سياسي أو اتفاق إقليمي، بل أصبح يعني النجاة، التمسك بالبيت، إفشال محاولة تهجير، أو الحصول على جرعة علاج. إنها انتصارات صغيرة بحجم الألم، لكنها تشكل جوهر الصمود الفلسطيني.

في هذا السياق، تتزايد المسافة بين التضامن الرسمي وتضامن الشعوب. الشعوب لا تملك أدوات القرار، لكنها تملك الوعي والرغبة في الفعل، وقد أظهرت عبر السنوات مواقف أكثر صدقاً من تلك التي تعبر عنها الأنظمة. من خلال التبرعات، والفعاليات، والضغوط المجتمعية، تعبر الشعوب عن انحياز حقيقي للقضية الفلسطينية، رغم ما تواجهه من قيود.

الفجوة بين خطاب الأنظمة وتطلعات الشعوب لم تعد خفية، بل باتت واضحة ومؤلمة. القمم لا تعالج هذا التباين، بل تسلط الضوء عليه. ومع كل جولة جديدة من التصريحات، يتعزز في الوعي الفلسطيني إدراك عميق بأن الاعتماد على الذات هو السبيل الوحيد. الصمود، التعليم، إعادة الإعمار، الحفاظ على النسيج الاجتماعي، كل ذلك يتحول إلى أدوات لمراكمة القوة في وجه واقع متغير ومشحون بالخطر.

تتراجع الثقة في الدبلوماسية الرسمية التي لم تحدث فرقاً، ويزداد الإيمان بالقدرة الشعبية على خلق الفعل. ومع الوقت، لم يعد الفلسطيني يعلق آماله على المنصات الخطابية، بل بات يراهن على نفسه، على قدرته على المواجهة، وعلى صبره الطويل في زمن لا يمنح فيه الواقع جوائز للمثاليين.