- 4 تشرين أول 2025
- أقلام مقدسية
بقلم: الباحث الشيخ مازن اهرام
اللسان لا يغرف إلا بما هو موجود في القلب
ما يفيض عن القلب يقوله اللسان هي عبارة تعني أن ما يمتلئ به القلب ويستقر فيه من مشاعر وأفكار ومكنونات هو ما يظهر وينطق به اللسان عند الكلام فإذا كان القلب سليماً نقيّاً ظهر ذلك في كلام الشخص ولسانه وإذا كان فاسداً ملوثاً ظهر فساده في كلامه وفلتات لسانه
عبارة أدمت القلوب ربما موقف أو حدث مؤلم جداً يبعث على الحزن العميق ويُسَببُ ألماً نفسياً شديداً، العبارة تعني أن الحدث لامس شغاف القلب وأحزنه لدرجة أن بدا وكأن القلب قد أصابه جرح شديد أو أُدًمٍي" من شٍدْةِ الألم
ولكم في رسول الله صلى الله عليه وآلة وصحبه قُدوة حسنة
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك )
دلالة صريحة على أن الأقوال والأفعال تؤثر على النفوس تأثيرًا بليغًا فالكلمة الطيبة إذا وقعت في القلب تغرس جذورها في أعماقه وترتفع شامخة في أنحاءه وكيف لا وقد ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وأما الكلمة الخبيثة فلها وقعًا أليمًا في النفوس قد لا يبرى منها صاحبها
كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز
هذه الحكمة تأتي بمثابة التعليل للتي قبلها، يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله:
إن الكلام الذي ينطق به اللسان، ليس مفصلاً عن معناه بل هو -كما هو معروف- وعاء له وإنما سمي الكلام كلاماً لأنه يحمل في داخله الدلالة على معنى ما ومصدر المعنى إنما هو القلب فمنه ينبثق وفيه يستقر ولقد قالت العرب قديماً تآلف الدالّ والمدلول وتعانق اللفظ والمعنى وإن جاء الكلام مخالفاً لما يتغشّاه من كسوة القلب ظهرت المخالفة وفضح القلبُ كذب صاحب اللسان وافتئاته عليه
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
يُحكى أن لقمان قد أُرسَل ليأتي بأطيب ما في الشاة فأحْضِر القلب واللسان وعندما سئل مرةً أخرى عن أخبثِ ما فيها أُحْضِر القلب واللسان أيضاً موضحاً أن القلب واللسان إذا صلحا صلح الإنسان وإذا فسدا فسد
وقد يرجى لجرح السيف برء ولا برء لما جرح السان
جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان
وجرح السيف تدمله فيبرا وجرح الدهر ما جرح اللسان
هذه الأبيات الشعرية المفعمة بالحكمة ذات المعنى العميق تنسب لشاعر عربي يلقب بشاعر الحكمة هو يعقوب الحمدوني وقد أطلت البحث عنه غير أني لم اجد للرجل من ترجمة تقرب شخصه لنا بعض الشيء أو بعض ما حفظه التاريخ له من دواوين أو مأثورات ؛ وقد سارت أبياته مضرب الامثال نظرا لأهميتها في حياة كل الناس على اختلاف مشاربهم ومكوناتهم ؛ ففي البيت الأول يؤكد الشاعر في مقارنة جميلة جرح اللسان وجرج السيف فالثاني يبرأ ويلتئم بعكس الأول وهذا بين في حياة الناس ومعاملاتهم خاصة من أولئك الذين يؤذون الاحساس بالكلمة الجارحة والغريب من قول الشاعر أنه استطاع اعادة الصياغة لما قال بطريقة جد فنية وذكية في بيته الثاني ولم لا نقول الثالث أيضا ذاك أنه ألقى بعض الظلال على المعنى فتحدث بلغة الجمع جراحات مقابل كلمة جرح في البيت الأول هذا من رغبته في تقريب الصورة الحقيقة لأثر الجرح في النفس والاحساس والبقاء في الذاكرة محفوظا ؛ويقصد من ابياته أن القول ينفذ ما لا تنفذ الابر وأن السيء في القول لا تبرئه أدوية الشفاء ولا عوامل النسيان
كثيراً ما مُني الناس بمواقف كلما تذكرها يشعر بالألم الُمِضنٍ الذي قد لا يشعر به الإنسان إلا عند لدغ الحية الخبيثة مواقف قرصت فيها الألسنة تركت في أعماق القلب نُدُوباً لم تٍمحُها الأيام التي تمحو كثيراً من حقائق الحياة مهما كانت متجذرة وكثيراً ما يتمنى الإنسان أن لا تُعاوده ذكراها الأليمة و يضرب لبيان شدة وقع الكلام الجارح في النفس
وبيان عظم أثره فيها وإن وقعه في النفس أشد من وقع السيف في الجسد فلربما برء
جرح السيف في الجسد وبقي جرح اللسان في النفس وهذا المثل عربي قديم
يقول حكيم العرب أكثم بن صيفي التميمي: عيوب الإنسان أكثر من أن تعد، ولكن هناك خصلة واحدة إن استعملها الإنسان سترت عيوبه كلها وهي حفظ اللسان، وقد قال الإمام الشافعي، رحمه الله
احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك انه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران
كسرة النفوس وجُرح المشاعر أعمق من جُرح الجسد وقلوب الناس لا تُرمم بالكلمات العابرة فكسرة النفس ليست مجرد موقف عابر يمضي مع الأيام بل هي تراكم لجراح صغيرة أو ضربة واحدة قاسية تأتي غالبًا من نوايا مسبقة تسعى لكسر الروح لا الجسد فما أصعب أن تُخذل ممن وثقت بهم أو تُكسر ممن ظننتهم سندك احذروا من كسر النفوس فالقلوب حين تنكسر لا تعود كما كانت حتى لو بدت قوية
"اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ." (لوقا 6: 45).
قيل لأعرابي ما الجرح الذي لا يـلتئم؟ قال: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يُردّ
قـيل لـه فما الذل ؟
قال: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له
فمن الأدوية المشهورة بيننا علاج جراحات اللسان بالاعتذار ، مثل كلمة آسف صحيح أن بعض الجروح لا تلتئم بكلمة آآآآآسف ولكن هل هناك علاج أنفع وأجدى من الاعتذار ؟
نعم فهناك بلسم شافي وعلاج نافع فعال يترك الجرح ولا ألم فيه ... بل ولا أثر له ... بل يجعله أطيب وأصح من حاله قبل جرحه ولكن وللآسف من يقبل هذا العلاج ؟
الذي يتنازل عن حظوظ نفسه من أجل مصلحتها وسعادتها ورضا الله عليه ومحبته له وتوفيقه له يقبل هذا العلاج بدون تردد ويسارع إليه وكأني أرى نفوس تشوقت وقلوب أقبلت تريد هذا
العلاج فإليكم العلاج قال الله تعالى
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)
ولا شك أن الأخذ بخيار (خير للصابرين) هو الأفضل .....هل توافقني؟؟؟