• 17 تشرين أول 2025
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : مازن الجعبري*

 

من خلال كلمة أمام اجتماع الأمم المتحدة، أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته لوقف إطلاق النار في غزة، وذلك بعد سلسلة لقاءات مكثفة مع ممثلي ثماني دول عربية وإسلامية سعياً منه لبناء غطاء إقليمي للمبادرة. لكن التعديلات الجوهرية التي أدخلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على بنود الخطة الأصلية حولتها إلى أداة تخدم الأجندة الإسرائيلية بشكل كامل، حيث ركزت على تحقيق متطلبات إسرائيل الأمنية مع تفريغها من أي ضمانات حقيقية لإنهاء الحصار أو تمكين الفلسطينيين من تحقيق مكاسب سياسية ملموسة، وهكذا تحولت الخطة من مجرد وسيلة لوقف إطلاق النار إلى أداة لإعادة هندسة المشهد في القطاع المحاصر.

لا يمكن فهم المبادرة الأمريكية بمعزل عن شخصية ترامب النرجسية وحساباته السياسية الضيقة، حيث يسعى إلى تقديم نفسه كـ “صانع الصفقات" الذي يحل أعقد المشكلات، معززاً صورته كـ “رجل السلام" أمام قاعدته الانتخابية. وقد تجلى ذلك بوضوح خلال زيارته المكوكية والخاطفة إلى إسرائيل وشرم الشيخ، التي تحولت إلى مهرجان سياسي وإعلامي دار حول شخصيته وأدائه. لكن هذه الاعتبارات الشخصية تتقاطع مع أبعاد إستراتيجية أعمق، أبرزها محاولة مساعدة إسرائيل في مواجهة عزلتها الدولية المتزايد، وذلك في ظل التحول العالمي الملحوظ نحو تبني السردية الفلسطينية، والذي تجلى في اعتراف العديد من دول العالم بالدولة الفلسطينية، بما في ذلك بعض حلفاء الولايات المتحدة. كما تهدف المبادرة إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة من خلال إظهار القدرة على فرض التسويات وإدارة الأزمات، حيث يقدم ترامب من خلال وقف التصعيد هدية سياسية ثمينة لنتنياهو، تخرجه من عزلته الدبلوماسية وتخفف الضغط الهائل عليه في قضية الأسرى والمعتقلين، مما يحقق أهدافاً مزدوجة لكل من واشنطن وتل أبيب.

تتمحور خطة ترامب في جوهرها كمبادرة مرحلية تهدف إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، مع تركيز رئيسي على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، متجاهلةً عمداً جوهر الصراع المتمثل في إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. وتمهد هذه الخطة لتحقيق أهداف إستراتيجية أوسع تكرس الفصل بين غزة والضفة الغربية، وتُبقي على الحصار عبر فرض وصاية دولية تتعامل مع القطاع كمشكلة إنسانية وإغاثية بحتة، بينما تنكر جرائم الحرب والإبادة التي ترتكبها إسرائيل. كما تهدف الخطة إلى تقويض المقاومة الفلسطينية من خلال تصويرها كعمل إرهابي، والترويج لرواية تهدف إلى تغيير الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني عبر اتهاماته بتبني ثقافة ومفاهيم تحتاج إلى التغيير، مما يحول الصراع من قضية احتلال إلى نزاع حول القيم والهوية، وذلك كله لخدمة الرواية الإسرائيلية التي تتجاهل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

قبلت إسرائيل الخطة الامريكية لوقف إطلاق النار نتيجة مجموعة من العوامل المتشابكة، يأتي في مقدمتها الضغط الأمريكي المباشر من قبل إدارة ترامب، إلى جانب الإدراك الإسرائيلي بأن الحرب لم تحقق أيًا من أهدافها الاستراتيجية الأساسية. فبعد عامين من القتال، فشلت إسرائيل في القضاء على المقاومة الفلسطينية أو تحقيق تقدم ملموس في ملف الأسرى الإسرائيليين عبر الوسائل العسكرية. كما ساهمت الضغوط الداخلية في المجتمع الإسرائيلي المنقسم، وتصاعد العزلة الدولية مع اتهامات إسرائيل بارتكاب أبادة جماعية، في دفع الحكومة الإسرائيلية نحو القبول بالاتفاق. لكن العامل الحاسم تمثل في المصالح الشخصية لبنيامين نتنياهو، الذي سعى إلى تقديم الاتفاق وكأنه إنجاز استراتيجي يحقق أهداف الحرب، في محاولة لإنقاذ وضعه السياسي المتدهور وتلميع صورته أمام الرأي العام الإسرائيلي الذي يتهمه بالمسؤولية عن الانهيار الذي حصل لإسرائيل.

وجدت المقاومة الفلسطينية في غزة نفسها أمام خيار صعب في ظل وضع فلسطيني متأزم يعكس تداعيات الانقسام وغياب القيادة الموحدة، حيث فرضت عليها الأولوية الملحة لوقف إطلاق النار ووقف النزيف الدامي في القطاع أن تقبل بشكل واقعي بخطة ترامب المرحلية. وقد جاء هذا القبول نتيجة طبيعة المواجهة العسكرية غير المتكافئة، والوضع الإنساني الكارثي، واختلال موازين القوى، مما دفع المقاومة لتأجيل المطالب الجوهرية كرفع الحصار والتخلي عن حكم غزة مقابل تحقيق وقف فوري للحرب.

أما السلطة الفلسطينية في رام الله، فقد وجدت نفسها على الهامش بشكل لافت، حيث مثل استبعادها من المفاوضات ثم دعوة الرئيس عباس لحضور مؤتمر شرم الشيخ بلا دور حقيقي، إعلاناً صريحاً عن نية استمرار تهميش الدور الفلسطيني الرسمي وتكريس الانقسام. وهذا ما يعكس محاولة تحويل القضية من قضية تحرر وطني إلى مجرد مشكلة إنسانية في قطاع معزول، مما يزيد من تعقيد المشهد الفلسطيني ويؤكد الحاجة الملحة لوحدة الموقف واستعادة المشروع الوطني التحرري.

على الصعيد الإقليمي، أبرزت الهدنة تحولاً لافتاً في أدوار الفاعلين الرئيسيين، حيث سعت كل من قطر وتركيا ومصر لتعزيز مواقعها في ملف الوساطة. فبينما عادت الدوحة لتلعب دور الوسيط الأساسي بدعم أمريكي واضح، مما يعزز حضورها كلاعب كبير في الملف الفلسطيني، برزت أنقرة كلاعب دبلوماسي جديد وفاعل رغم التخوفات المصرية والإسرائيلية من تدخلها المباشر الذي يرتبط بامتداد نفوذها الإقليمي.

من جهتها، سعت مصر للعودة إلى واجهة الوساطة مستفيدةً من تحالفها التقليدي مع واشنطن واتفاقياتها مع إسرائيل، لكنها وجدت نفسها أمام منافسة حادة من الدورين القطري والتركي المتصاعدين. وفي المشهد الخليجي، أدت السياسات الإسرائيلية العدائية إلى إقناع دول محورية مثل السعودية بأن الخطر المباشر يأتي من إسرائيل، مما دفعها إلى إرجاء أي خطوات نحو التطبيع العلني، في مؤشر على تحول استراتيجي في المواقف الخليجية قد يعيد رسم تحالفات المنطقة.

تتوقف السيناريوهات المستقبلية لمرحلة ما بعد الهدنة الحالية بشكل كبير على مدى جدية الرئيس ترامب في تحويل خطة وقف إطلاق النار إلى مسار لإنهاء الحرب بشكل كامل، إلا أن المؤشرات لا توحي برغبته في تحويلها إلى خطة سلام شاملة. فمن المشكوك فيه أن تسعى إدارته إلى إنشاء مسار سياسي حقيقي، خاصة في ظل استمرار الحكومة الإسرائيلية في نهجها الاستيطاني الذي يتجلى في الاستمرار بالاستيطان ومشاريع الضم في الضفة الغربية، فضلاً عن سعيها الدؤوب لتوسيع نفوذها خارج حدودها الحالية، وفرض نفوذها بالقوة في الإقليم.

في هذا السياق، يظل السيناريو الأرجح هو استمرار هشاشة الوضع، حيث تدخل المساعدات إلى غزة مع عودة سريعة للتصعيد مع أول خرق، وذلك لأن إسرائيل لن تلتزم بوقف إطلاق نار دائم وستسعى دائماً لإيجاد المبررات لاستهداف الفلسطينيين. كما أن استمرار الانقسام الفلسطيني سيعمق الضعف الفلسطيني، مما يفتح الباب أمام محاولات فرض وصاية دولية وعربية على غزة، ويحول الدبلوماسية إلى مجرد أداة لإدارة الأزمة بدلاً من حلها. 

إن مجمل ما سبق من تحليلٍ يُظهر بوضوح أن خطة ترامب ليست مجرد مبادرة لوقف إطلاق النار، بل حلقة جديدة في مشروع سياسي أوسع يستهدف إعادة تشكيل المشهد الفلسطيني والإقليمي بما يخدم مصالح إسرائيل والولايات المتحدة. فهذه التحولات، وما تكشفه من محاولات لإعادة تموضع إقليمي وتراجع في الدور الفلسطيني الرسمي، تؤكد أن الخطر الحقيقي لا يكمن في تفاصيل الخطة ذاتها، بل في استمرار غياب المشروع الوطني الموحد القادر على مواجهتها.

ما دام هذا المشهد المعقّد، يثبت الواقع أن عدم الاتفاق على مشروع وطني تحرري جامع سيحكم على الموقف الفلسطيني بالضعف وتعميق الانقسام. لذلك فإن المطلب الفلسطيني الملح اليوم هو إعادة بناء الإجماع الوطني على استراتيجية موحدة، تحوّل لحظة التنفس هذه إلى خطوة على طريق التحرر الحقيقي، بعيداً عن الوهم الذي تبيعه صفقات ترامب المؤقتة.

ولكي يتحول الفلسطينيون من مجرد متلقٍّ للأزمات إلى فاعلٍ يصنع مستقبله، لا بد لهذا المشروع التحرري الشامل أن يعمل على عدة جبهات متوازية، تعزيز السردية الفلسطينية العادلة التي تؤكد على الحقوق التاريخية والشرعية، واستمرار تعزيز التضامن العالمي الذي يشكل رافعة سياسية وأخلاقية، والسعي الدؤوب لعزل إسرائيل دولياً وكشف طبيعتها كدولة احتلال عنصرية، وملاحقة مجرمي الحرب قضائياً في كل المحافل الدولية لكسر شوكة الإفلات من العقاب.

فقط بهذه الرؤية المتكاملة، التي تجمع بين البناء الداخلي والحراك الخارجي الفاعل، يمكن استعادة زمام المبادرة وفتح أفق جديد للنضال من أجل التحرر.

* كاتب ومحلل سياسي من القدس