- 15 كانون أول 2025
- أقلام مقدسية
بقلم : داود كتاب
بلغت الفجوة بين الواقع على الأرض والواقع الافتراضي في أذهان المسؤولين الإسرائيليين وخطاباتهم أبعاداً مذهلة. من المفهوم أن يلجأ زعيم سياسي يواجه انتخابات مصيرية، وربّما نهاية مسيرته السياسية، إن لم يكن حريته الشخصية، إلى المبالغة لتعزيز مكانته، لكن المزاعم والشروط التي يفرضها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على جهود وقف إطلاق النار، التي توسّطت فيها الولايات المتحدة، تتجاوز بكثير مجرّد المبالغة السياسية.
أبرز مثال على هذا إصرار نتنياهو على وجوب نزع سلاح المقاومة الفلسطينية من جانب واحد ومن دون أيّ مقابل. يُطرح هذا المطلب في فراغ، من دون أيّ توضيح لكيفية ذلك أو مَن سيقوم به. المقاتلون الفلسطينيون، الذين تكبّدوا خسائر فادحة مع مجتمعهم، لم يُهزموا. لقد ألحقت إسرائيل دماراً هائلاً، لكنّها لم تنتصر في الحرب، ولم تستسلم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أو أيّ فصيل مقاومة آخر. فكرة تسليمهم أسلحتهم طوعاً من دون أيّ مقابل سياسي تُعدّ مطلباً منفصلاً تماماً عن الواقع.
أعلن قادة "حماس"، بمن فيهم خالد مشعل، انفتاحهم على هدنة طويلة الأمد، كما صرّح عدد منهم بأنهم على استعداد لأن يسلّموا أسلحتهم لحكومة فلسطينية شرعية، وليس لأيّ قوة احتلال. ولا يُعقل أن يُتوقّع من أيّ دولة أن تُحقّق عسكرياً ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه طوال عامين رغم تفوّقها العسكري.
إذا كانت إسرائيل جادّة في خفض التصعيد، يمكنها المساهمة في ذلك من خلال السماح للدولة الفلسطينية بإدارة شؤون غزّة والتعامل داخلياً مع مسألة الأسلحة. لكن هذا يقودنا إلى مطلب إسرائيل المبالغ فيه: أن تتوقّف السلطة الفلسطينية عن التعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) واحداً من شروط التعاون معها. ويتناقض هذا المطلب مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيراً بتجديد ولاية "أونروا" ثلاث سنوات. يعتقد نتنياهو أنه إذا اختفت الوكالة الأممية، سيختفي معها القرار 194، الذي يُعتبر الأساس الدولي المعترف به لحقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة. ولا تزال هذه الأوهام قائمةً رغم رفض إسرائيل مبادرة السلام العربية الشاملة، التي عرضت التطبيع مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة.
تناولت تلك المبادرة قضية اللاجئين عبر مفاوضات على أساس التوصّل إلى نتائج متّفق عليها من جميع الأطراف. ومع ذلك، تُصرّ إسرائيل على إملاءات أحادية الجانب لا يمكن قبولها.
كأنّ هذه المطالب لم تكن كافيةً، فتُصرّ إسرائيل على أن تطبّق الحكومة الفلسطينية إجراءات "مكافحة التطرّف". دعونا نحلّل هذا الطلب... يُتوقّع من شعبٍ عانى حرباً داميةً عامَين، تشنّها دولةٌ، رئيس وزرائها ووزير دفاعها مطلوبان للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب، أن يصبح أقلَّ تطرّفاً لإرضاء مضطهديه. يُتهم الفلسطينيون، الذين يواجهون عنف المستوطنين يومياً وسرقة أراضيهم ومداهمات منازلهم والخنق المالي والانتهاك المنهجي للاتفاقيات، بالتطرّف بسبب مناهجهم الدراسية (!).
ليس هذا الاقتراح مجرّد عبث، بل قلبٌ للواقع. فرغم مرور 77 عاماً على التشريد و59 عاماً على الاحتلال غير القانوني وبناء المستوطنات، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، لا يزال القادة الإسرائيليون يصوّرون أنفسهم ضحايا، يتوقّعون من الفلسطينيين إلقاء أسلحتهم، وقبول احتلال لا نهاية له، وتجاهل سرقة أراضيهم، والتخلّي عن أيّ حقّ في حلٍّ عادل لأزمة اللاجئين التي خلقتها إسرائيل.
للأسف! لا يزال بعض المسؤولين في واشنطن وعواصم أخرى يستسلمون لهذه الأوهام؛ إمّا أنهم يسيئون فهم التجربة الفلسطينية، أو يختارون تجاهلها. لكن من المشجع أنّ أعدادهم تتضاءل، حتى وإن استمرّ من بقي منهم في ممارسة نفوذ غير متناسب، ومعاقبة الهيئات الدولية من مقرّري الأمم المتحدة إلى قضاة المحكمة الجنائية الدولية وغيرهم، لقمع الأصوات المُعارِضة.
... بغضّ النظر عن الضغوط السياسية، يجب أن نقولها بوضوح: مطالب نتنياهو غير معقولة. أولئك الذين يروّجونها أو يؤيّدونها متواطئون في إطالة أمد جرائم الحرب، وفي حرمان الشعب الفلسطيني من حقّه الأساس في تقرير المصير.
ما نحتاجه الآن ليس المزيد من التشويهات، بل مراجعة إسرائيلية للواقع، ومجتمع دولي مستعدّ للإصرار على ذلك.
عن العربي الجديد

