- 24 كانون أول 2025
- أقلام مقدسية
بقلم : مرزوق الحلبي
الكتابة للآخر ليست جديدة. فهي ظاهرة ملازمة لحالات الكولونيالية المباشرة وغير المباشرة. فكثيرون من الكتّاب أبناء المُستعمرات في طول الدنيا وعرضها بذلوا جهودًا جبارة لإتقان لغة المُستعمِر والكتابة بها انطلاقًا من مركزيّة الآخر ومفاهيمه وتصوراته وهامشية الذات. إضافة إلى الكتّاب، كان هناك ما أطلق عليه اسم "الترجمان" الذي كان يُترجم للمستعمِر ثقافة المستعمَر. الذي كان يُترجم للغزاة كلام الشعوب التي أُخضعت. أو كما وصفه درويش: المستشرق "الذي يُرشد الجنرال إلى نقطة الضعف في قلب شرقيّة". وهناك، أيضًا، الوسيط الذي غالبًا ما كان يدوّر الزوايا ويلتفّ على التناقض الوجودي بين مستعمِر ومُستعمَر ويعتاش من وظيفته هذه. بمعنى أن الكتابة للآخر في حالة الاستعمار تشوبها الشبهات، خاصة حين تكون غايتها الإرضاء وكسب الاستحسان والانتفاع وتأكيد "الاعتدال" أو "الخضوع".
أسوق هذا المدخل القصير ـ وهو مدخل طويل وقاس في التاريخ الحديث ـ للتدليل على ما ألاحظه من ظاهرة العرب الذين يكتبون لليهود. بمعنى الذين يصوّبون كتاباتهم بلغة عبريّة ـ هي لغة الحالة الاستعماريّة هنا ـ إلى عين القارئ العبري وقلبه ليحظوا برضاه أو إعجابه. وهي حاجة لدى هؤلاء لأنهم يفترضون اليهوديّ ـ السيّد الأقوى والأذكى، نقطة قياس، يقيسون بها العالم وأنفسهم. وعندما أقول كتّابًا أقصد، أيضًا، كثيرين من المتحدّثين في الإعلام العبري وعلى منصاته وغايتهم تسليم "نقطة الضعف العربيّة" إلى "الجنرال الإسرائيليّ" بنسخ الاستشراق حرفيًا. في مثل هذا السلوك الواعي ـ وقد يكون غير واعٍ ـ أيضًا، نوع من الوضاعة أو الخيانة المعنوية. أو هو نوع من التموضع الوجودي في "الجانب المريح" من الكرة الأرضية وعلاقات القوة. حتى الذين يستعملون عبارات نقدية ويظهرون بمظهر "الصوت العربيّ" فهم غالبًا ما "يطعجون" في نهاية الكلام حينما يتبنون فرضيات النقاش العام بالعبريّة ويختتمون حديثهم بتأكيد إيمانهم بالتعايش وبأن هناك أكثرية عربية معتدلة تريد في نهاية اليوم أن تعيش بسلام وتشارك "المستعمِر" في بناء الدولة.
أحيانًا، لا تكون الكتابة انحيازًا واضحًا للمستعمِر. قد تكون انحيازًا مواربًا. أو هي كتابة حيادية تعكس حركة من الكاتب مفادها أنه خرج من خانة جماعته، وأنه يمكث خارجها لا ينتمي إلى "المقهورين/الأشرار/المتطرفين". هذه الحالة هي أيضًا كتابة للآخر بوصفه نقطة القياس. يكفّ الكاتب فيها عن أن يكون مع نفسه وهويته وينتقل إلى موضع محايد يعتقده آمنًا ولا يستقدم عليه المشاكل. وهي في سياقنا الاستعماري كتابة "معتدلة" أو أكاديمية صرف أو "موضوعية" يختار فيها الكاتب أن يكون "مختصًا" و"خبيرًا" و"مهنيًا"، خانة يظنها تساويه مع الآخر و/أو تضمن انضمامه إليه في منطقة محايدة كما يعتقد أو كما أقنعه المستعمِر ـ المعرفة والعلم. لكن في واقع الحال، وبسبب من حالة الاستعمار، ليست هناك خانة محايدة لأن المؤسسة الإسرائيلية مُحدِثة الحالة الاستعمارية لا تطيق الحياد، وعادة ما تشكك في صاحبه.
على أي حال، بعض العرب الفلسطينيين هنا احترفوا في الآونة الأخيرة الكتابة للآخر ـ قسم منهم يفعل ذلك في جريدة "هآرتس" ـ لكننا نصادفهم في منصات مشتركة أو في منصات عبريّة عديدة. وفي الكنيست، أيضًا. إنها من علامات المرحلة التي يهيمن فيها فكر يميني عنصري على المنظومة الاستعمارية ويسعى إلى تعميقها. ومنهم من يساعدهم على ذلك، خاصة عندما لا يستطيعون الحضور بالعبريّة بكامل قاماتهم كما هم في العربيّة. وقد لاحظت في مناسبات عدّة أن أناسًا منّا معروفون بوطنيتهم ووعيهم السياسي يصيرون غيرهم أو أقل ممّا هم عليه، كلما انتقلوا للحديث بالعبريّة أو على منصات عبريّة. للقول، إن لغة المستعمِر تصير حدودًا للناطق بها. وكلّ لغة فيها تصور للعالم وللظواهر وسلسلة من الأحكام والفرضيات.
اللغات في الحياة المحكومة بحالة استعمار غير محايدة البتة. حتى عندما ينتقل المتحدثون إلى لغة ثالثة ـ الإنجليزية مثلًا ـ ففي هذا الانتقال مقولة وموقف. إن تطبيقات الحالة الاستعمارية تتم بلُغة المستعمِر وأفعالها العدوانية ـ أنظر حرب الإبادة وما رافقها من "لغة" على ألسن الجنرالات والمسؤولين الإسرائيليين، وهذه اللغة هي التي تنتج الواقع على ما فيه من قهر كبنية وخطاب ووعي. ومن هنا فإن الدخول في هذه اللغة بوصفها كهذه يستدعي الحذر وعمليّة تحرير وجهدًا لنزع فتيلها وعدائيتها.
في الحالة التي نحن فيها يكاد الأمر يكون مستحيلًا. أو بكلمات أخرى، حضور بعضنا في العبريّة يصير غيابًا. وحتى يكون حضورًا فعليًا وفاعلًا عليه أن يكون حضورًا كاملًا كما هو في العربيّة. سيحضر العربي هنا في العبريّة إذا نقل رواية جماعة انتمائه كاملة وإذا سمّى واقع القهر والحرب بأسمائه هو.
عن موقع عرب ٤٨

