• 13 آب 2020
  • مقابلة خاصة

 

بقلم: خليل العسلي

 

 أمضي صديقي التركي جل عمره من اجل هدف سام سعى بكل جوارحه الى تحقيقه ألا وهو التقريب بين العرب والأتراك من خلال الحوار.

 وللحقيقة يمكن القول انه حقق نجاحا ملفتا للنظر في ذلك، قبل ان تصاب تلك العلاقات الحساسة بانتكاسة عميقة بسبب السياسة التي تقضى حتى على الحوار بين المفكرين والمثقفين الذين اثبت البعض منهم مرة اخرى بأنهم خلف السياسيين وليس امامهم، يا للخسارة! هذا الوضع المؤلم كاد ان يصيب الصديق الكبير بالحسرة، والشعور بأنه فشل في مهمة عمره في التقارب بين العرب والأتراك من خلال الحوار بعيدا عن السياسة المتغيرة المتلونة.

هذا الصديق الذي يعتبر وبحق خير من مثّل الاتراك في حوار صريح مع العرب، وخير من مثّل العرب في حوار صريح مع الاتراك، قررت خوض نقاش غير عادي معه في جلسة حوار عميق لقضايا تعتبر بالنسبة للكثيرين محرمة يفضل عدم الخوض فيها حفاظا على الود في العلاقة او خشية أن تكون بداية الانفصال بدل التقارب.

 ورغم ذلك جرى الحوار تزامنا مع تصعيد حملة في وسائل الإعلام العربية ضد تركيا ورموزها،   من خلال سلسلة من المقالات المتفرقة في الصحف العربية المختلفة عن مؤسس الجمهورية  التركية مصطفى كمال اتاتورك ، وعما يسمى بالخلافة الإسلامية، فجماعة الاخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخرى تصب جام غضبها عليه وكأنه دمر دولة الإسلام التي لم تكن أصلا كذلك ، بينما جماعة من القوميين تصب جام غضبها على تركيا حقدا وغضبا وكأنها  كنت السبب في كل مصائب العرب ، تلك المصائب هي نتيجة لما قدمت يد من انضم للجهود الإنجليزية للقضاء على الإمبراطورية العثمانية وليس يدي  تركيا .

 في هذه الأجواء دار النقاش مع الصديق والأستاذ التركي، والذي كان نقاشا خارجا عن المألوف بصراحته، ويمس العصب الحساس في العلاقة العربية التركية التي تشهد تراجعا بل تدهورا في الوقت الحالي والتي نتمنى ان يكون تراجعا موقتا، فهذه العلاقة لم تعد تحتمل القطيعة التي استمرت لعشرات السنين بدون سبب وجيه.  

وقبل ان ابادره بأي سؤال وكأنه كان على علم بما يدور بخاطري، سارع الى افتتاح النقاش بقوله وهو ينظر مباشرة الى:

 “هل تعلم انه عندما تم الإعلان عن تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 كان قد سبقت ذلك حرب طاحنة نطلق عليها اسم حرب التحرير بدأت عام 1919، وذلك بعد انهيار الدولة العثمانية وتوقيعها اتفاق "سيفر" الذي أدى الى دخول الانجليز والروس الى إسطنبول محتلين والايطاليين دخلوا غازي عنتاب، اما اليونانيون فلقد احتلوا ازمير ولشدة حقدهم احرقوا المدينة قبل ان ينسحبوا منها، وكان الفرنسيون قد احتلوا مدينة ملاطيه.

 ويستطرد الصديق كلامه وكأنه يقرأ من كتاب تاريخ مفتوح امامه: “. ولهذا فعندما بدأت حرب التحرير، كانت الدولة العثمانية منهارة والشعب منهك للغاية بعد أربع سنوات من الحرب العالمية، ومع ذلك تمكنت بقايا الجيش والشعب بقيادة كمال اتاتورك من خوض حرب التحرير مسجلين انتصارات مبهرة ومذهلة، مكنت من تأسيس الجمهورية في عام ١٩٢٣ وبالتحديد في يوم ١٩ أكتوبر (تشرين الأول).

 بعد هذه المقدمة التي ربما كان لها سبب ولكنها كانت مفيدة جدا وكبداية لشيء قادم، توجهت للصديق الحكيم وسألته عن موقف العرب وخاصة الاسلاميين من اتاتورك؟ فهذا سؤال بات حجر الزاوية في نظرة أصحاب التوجه الإسلامي الى تركيا عامة.

 فكان الرد بشكل لم اتوقعه “ما هذا التناقض الصارخ الموجود عند شريحة كبيرة من الاخوة العرب، ففي نفس الوقت الذي اتهم فيه العرب العثمانيين بالفساد وانهم كانوا مرتشين، ضيعوا البلاد واستعبدوا العباد، بل وذهب العرب أيضا إلى اتهام العثمانيين بأنهم كانوا محتلين للبلاد العربية، في هذا الوقت كذلك يتهمون مصطفى كمال اتاتورك بأنه عمل على إسقاط الدولة العثمانية !!  أي تناقض هذا.

 فإذا كانت الدول العثمانية سيئة وكان العرب يريدون استقلالهم، فإنه من المنطقي أن يكون ما قام به اتاتورك شيئا إيجابيا لهم ويخدم أهدافهم القومية، لأنه تخلص من الدولة الفاسدة المستبدة وساهم بتحرير العرب.   ولكن إن نسمع إن العرب كانوا يعتقدون إن الدولة العثمانية كانت جيدة ويجب ألا تنهار! فهذا لا يتمشى والمنطق الذي كان سائدا في ذلك الوقت.

 خاصة وانه تم اتهام الدولة العثمانية بانها كانت تعمل على تتريك العرب، ولكن للحقيقة لم نشاهد عربيا يتحدث التركية، كما هو حال الجزائريين والمغاربة ولتؤانسه يتحدثون الفرنسية بطلاقة حتى يومنا هذا واللبنانيون يتفاخرون باللغة الفرنسية! فعن أي تتريك يتحدثون؟

 وللتاريخ نقول إن الدولة العثمانية قامت بعملية تعريب واسعة حيث تم إحضار الناطقين بالعربية ومن يتقنها للعمل في إسطنبول، وتولى هؤلاء مناصب رفيعة، وذلك بدافع إسلامي.

 وقبل ان يكمل حديثه سارعت بسؤاله: ماذا بخصوص الخلافة الإسلامية؟

فقال الصديق التركي الأصيل وهو ينظر بتفحص في الفضاء المحيط بنا: " إن الخلافة الإسلامية لم تكن إسلامية بل كانت سلطة سياسية، واخر خليفة عثماني (وحيد الدين) كان متعاونا مع الانجليز، وأصدر حكما بإعدام “مصطفى كمال اتاتورك " الذي كان يريد تحرير بلاده من الاحتلال الإنجليزي، ناهيك عن أن الخلافة كانت منتهية فعليا، والشيء الأهم هو أن نفترض أن الخلافة هي للعرب، ولكن العرب لا يريدونها بدليل أنهم اتفقوا مع الإنجليز على إنهاء الدولة العثمانية(الخلافة) وقاموا بثورة. ضد من؟

 فإذا أردتم الخلافة يا أبناء الدول العربية فتفضلوا وخزوها، من الذي يمنعكم؟ أهي خلافاتكم الداخلية؟، وكما يقال لنا " في التاريخ عبر ودروس" فبعد انتهاء الدولة الاموية جاءت الدولة العباسية وبعدها جاء المماليك، وبعدهم جاءت العثمانية، ولماذا لم يكمل العرب مشوار الخلافة؟ خاصة وانهم من نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنقل بهذا المنطق أنهم الأحق بالحفاظ على الخلافة!

 واكمل حديثه الذي بدا لي وكأنه نهر دافق  لا يمكن الوقوف بوجهه : "  ناهيك يا صديقي ،عن أن السلطة  الدينية كانت مسيطرة على الحياة المدنية في الفترة العثمانية ، فبعد سليمان القانوني ، بدا التدهور حيث  أصبح السلطان  صاحب السلطة المطلقة فهو الذين يعين الجميع ، رغم أنه الخليفة أي السلطة الدينية فقط ، وكان الحكم مبنيا على الفتاوى الدينية التي يصدرها شيخ الإسلام وفق تعليمات السلطان ، ويذكرانه كان ولا زال هناك اشخاص كثيرون لا يريدون إعادة فتح  باب الاجتهاد ولا يريدون العلمنة وليس العلمانية، بمعنى  تحكيم العقل، فالدين ليس مخالفا للمنطق والعقل ، ولكن كان هناك نفر من الناس إعتبروا أن قولهم هو الحق وما دونهم فهم  الباطل ، وإن لم تصدق ذلك فانت خائن  ، أنت مجرم  بل وكافر ، وبات التكفير على نطاق واسع ، هكذا كانت الأحوال في الماضي .

 في بدايات القرن العشرين وفي فترة السلطان وحيد الدين الثاني وصل الروس إلى مشارف إسطنبول واحتلوها، فكان لا بد للأتراك أن ينتفضوا دفاعا عن ارضهم ووطنهم، ومعروف عن الاتراك حبهم الشديد للوطن.

 توقف الصديق ليرتشف على عجل ما تبقى من فنجان القهوة التركية، فوجدتها فرصة لطرح سؤال اخر: هل كان لحركة الاتحاد والترقي دورا في تدمير العلاقة بين العرب والأتراك؟

فرد بدون ان يفكر لثانية: " نعم بالتأكيد كان لها دورا كبيرا في حروب عبثية لا معنى لها، ومن ضمنها الحرب العالمية الأولى، لماذا يجب أن أقف مع المانيا؟ لماذا لا أحافظ على بلدي والتزم الحياد؟ في الحرب العالمية الثانية كان رئيس الجمهورية "عصمت اينونو" قال: نحن على الحياد في تلك الحرب، وعندما قالوا له من لم يشترك بالحرب ضد المانيا لن يكون جزءا من الأمم المتحدة، قرر في عام 1945 عندما كانت الحرب تضع اوزارها بشهرين أن تعلن تركيا الحرب ضد المانيا النازية ولجانب الحلفاء، برأيي هذا ذكاء جيد منقطع النظير، هكذا تدار الدولة بالكثير من البرغماتية الأخلاقية كما جاء في كتابك "المستشار التركي والبرغماتية الأخلاقية “الصادر هذا العام.

 ومستطردا: الخطأ الكبير الذي ارتكبه اتاتورك كان عدم التسامح مع الأفكار وليس الممارسات الدينية، كان يريد أن يغلق البوابة الشرقية لتركيا بكل الوسائل وان يفتح البوابة الغريبة على مصراعيها، كنت دائما أقول إن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مهم جدا بالنسبة لتركيا، لكن علينا أن نميز بين امرين، فنحن نريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وليس إلى أوروبا، نريد الانضمام إلى المعايير الإنسانية مثل حقوق الانسان وحرية الصحافة وما الى ذلك، ولكن لا نريد أن نكون دولة أوروبية وفق معاييرهم.

 

 مضيفا: أن اتاتورك لم يقض على كل شيء عثماني، فالإنجليز والفرنسيون والايطاليون والروس واليونانيون هم من قضوا على كل شيء عثماني وليس تركيا الحديثة، واتاتورك كان يريد تأسيس بلد قومي للأتراك والذين يودون العيش مع الاتراك، كان يحلم أن يؤسس دولة الاناضول وقد حققها.  ويقول الميثاق الملي أي العهد القومي والذي كتبه اخر مجلس مبعوثان عثماني بعد الحرب، في مادته الأولى " إن الأراضي التي استولى عليها الأعداء حين وقف إطلاق النار وفيها اغلبية عربية هم احرار، يقررون مصيرهم بأنفسهم" يبقى السؤال يا صديقي هل قرر العرب مصيرهم بأنفسهم؟ لا بل استعمروا من قبل الانجليز والفرنسيين. للذين يرفضون هدم الدولة العثمانية، من الذي هدمها؟ والذين كانوا ضد الدولة العثمانية بكل ابعادها، لقد زالت هذه الدولة وذاك النظام، فهل أنتم مع النظام الديمقراطي؟

 

 وأكمل الصديق التركي المثقف الحكيم في الوقت نفسه: إن الحملة العربية ضد اتاتورك فيها الكثير من التناقض، خاصة مما يطلقون على أنفسهم "الاخوان المسلمين" والذي قالوا إن اتاتورك قطع علاقته مع الدين، اتاتورك كان يريد أن يقطع علاقتنا مع الخرافات، أي أن تبقي أصول الدين ولكن بشكل علماني بما يعنى ألا يكون رجال الدين هم المسيطرين على جميع مرافق الدولة المدنية، شفيعنا ونبينا صلى الله عليه سلم قال أنتم أدري بشؤون دنياكم، هذا الموضوع يجب ان يكون بهذا الشكل.

 

ألم يكن للنظام الجمهوري واتاتورك نفسه أخطاء؟ ألم يكن للدولة العثمانية أخطاء؟ الجواب في كلا الحالتين نعم. ولكن العبرة في تلمس الأخطاء وتصحيحها وزرع بذور الحب والود بدل الكره.

يا سيدي، ليسوا هم المخطئين فقط، بل نحن جميعا ولكي نصلح أخطاءنا يجب أن نلجأ للحوار العلمي الحضاري الهادف؟ لا بديل عن ذلك؟

 

وأخيرا تنهد قائلا: هل تريدني أن أوجز لك كل ما قلت؟ ليترك العرب والأتراك فكرة أن يتقبلوا الآخرين كنسخة مستنسخة من قبلهم. لكل شعوره الخاص وهواجسه وأحاسيسه، ولا تستطيع أن تضع الآخرين في جهاز استنساخ ليكونوا مثلك. لنقبل الآخرين كما هم ونتطلع إلى الرقي سويا دون الحفر في فجوات الماضي، لنتطلع إلى مستقبل مشرق؟ هل يمكننا ذلك؟ الإجابة لديك ولدى قرائك.