• 30 أيلول 2020
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : الاديب محمود شقير

 

كلّما جرى ذكر المخاطر الّتي تتعرّض لها مدينة القدس هذه الأيام، تذكّرت قصيدة الشاعرة الفلسطينيّة فدوى طوقان الّتي كتبتها في النصف الأوّل من ستّينات القرن العشرين، واصفةً حالها حين اقترب منها رجل إنكليزيّ ليسألها وهي تتمشّى على رصيف الشارع في لندن:

طقسٌ كئيبٌ وسماؤنا أبدًا ضبابيّة

منْ أين؟ إسبانيّة؟

كلّا (...)

أنا من روابي القدس

وطن السنا والشمس

يا، يا، عَرَفْتُ؛ إذنْ يهوديّة!

يا طعنةً أَهْوَتْ على كَبدي صَمّاءَ وَحْشيّة.

تذكّرتُ في الوقت نفسه أنّني واجهت المشكلة ذاتها حين ركبت سيّارةً من المطار إلى الفندق في مدينة نيويورك عام 1998؛ فقد سألني السائق الأميركيّ: من أين أنت؟ قلت: من القدس. قال: أنت يهوديّ!

هذا الربط بين القدس واليهود في المخيال الأوروبيّ والأميركيّ، يجعلني مضطرًّا كلّما تحدّثت عن القدس إلى المقارنة بين ما نفعله نحن الفلسطينيّين والعرب لتأكيد هويّة القدس الأصليّة، بوصفها مدينة عربيّة فلسطينيّة لمواطنيها المقدسيّين المسيحيّين والمسلمين، وبين ما يفعله الإسرائيليّون لتأكيد هيمنتهم على القدس بجزئيها الغربيّ والشرقيّ؛ سواء أكان ذلك عبر نشر الدعاية المستندة إلى التوراة وتعزيز حضورها لدى المسيحيّين في الغرب، أم عبر مراكز الدراسات المعنيّة بتاريخ القدس، وبمحاولات اشتقاق تاريخ مُتَخَيَّل للمدينة مرتبط باليهود، أم عبر الروايات الإسرائيليّة المترجمة إلى لغات عالميّة عديدة، لأجد أنّنا مقصّرون تجاه مدينتنا الّتي تظفر بكثير من الخطب والشعارات واللجان الّتي يدّعي كلٌّ منها وصلًا بالقدس، والقدس لا تجد سوى قليل من الاهتمام الفعليّ الجادّ. 

ولعلّني لا أحتاج إلى دليل حين أقول إنّ القدس دخلت منعطفًا خطيرًا بعد نقل السفارة الأميركيّة إليها، وبعد إعلان ترمب عن صفقة القرن الّتي تمّ بموجبها إخضاع كلّ من الإمارات العربيّة المتّحدة والبحرين للإرادة الأميركيّة، ودفعهما إلى توقيع اتّفاقات «سلام» مع دولة الاستعمار (ثمّة دول أخرى ستدخل هذه الحظيرة في المستقبل القريب)، الأمر الّذي شجّع بعض الفنّانين المغمورين وبعض الإعلاميّين الّذين لا يمثّلون الشعبين الإماراتيّ والبحرانيّ، على تقديم الولاء لدولة الاستعمار، والإفصاح عن رغبتهم في زيارة «أورشليم» بحسب منطقهم المنحرف؛ علمًا بأنّ زيارتهم إلى القدس من خلال دولة الاستعمار وعبر التنسيق معها تعني التسليم بالرؤية الإسرائيليّة الاحتلاليّة للقدس، ولماضيها وحاضرها ومستقبلها.

 انتهاك الفضاء

 إزاء هذه التطوّرات الأخيرة، يمكن إدراك خطورة الإجراءات الإسرائيليّة المتصاعدة ضدّ المدينة؛ فقد تزايدت الانتهاكات ضدّ الأماكن المقدّسة فيها، وخصوصًا ضدّ «المسجد الأقصى» الّذي يجري التمهيد لتقسيمه الزمانيّ والمكانيّ، بما يتيح للمتطرّفين الصهاينة دوام الدخول لساحاته لإقامة شعائرهم الدينيّة فيها، علاوة على استمرار الحفر تحت المسجد، بما يهدّد بقاءه، وبما يوحي أنّ ثمّة نوايا مبيّتة لتدميره.

وقد تصاعدت في الآونة الأخيرة عمليّات هدم البيوت في القدس وضواحيها، ومصادرة الأراضي، وتعزيز وجود البؤر الاستيطانيّة داخل سور المدينة، وكذلك توسيع البناء الاستيطانيّ خارج السور، بما يحقّق، على نحو تامّ، عزل المدينة المقدّسة عن محيطها الفلسطينيّ، ومحاولة تقليص الوجود البشريّ في المدينة عبر سحب هويّات المقدسيّين لهذا السبب أو ذاك.

وثمّة بنايات ضخمة خارج سور المدينة أقيمت منذ سنوات، وفيها اعتداء على المشهد الّذي يشكّل فضاء القدس الخاصّ. ثمّة أيضًا القطار الخفيف المكرّس لخدمة المستوطنين، الّذي يخترق بعض الأحياء المقدسيّة لكي يربط بعض المستوطنات بمركز المدينة وبـ «مستشفى هداسا عينْ كارِمْ». 

لقد أسهم البناء الاستيطانيّ على التلال المشرفة على القدس في حجب مشهد «البلدة القديمة» و«قبّة الصخرة المشرّفة» من على هذه التلال، ولا سيّما من على «التلّة الفرنسيّة»، وما زال المشهد متاحًا من قمّة «جبل المكبّر»، لكنّ ثمّة مخطّطًا إسرائيليًّا لبناء فندق ضخم وإنشاءات عمرانيّة أخرى...

ويجري التخطيط لإنشاء خطّ تلفريك من «جبل الطور» إلى «البلدة القديمة»، في انتهاك مفضوح لقدسيّة «المسجد الأقصى» ولفضاء المدينة. يجري كذلك التخطيط لتدمير المنطقة الصناعيّة في «حيّ وادي الجوز»، تمهيدًا لإنشاء حيّ صناعيّ مكرّس لتعزيز إجراءات تهويد المدينة، ولتحويل أصحاب الكراجات والمحالّ التجاريّة الصغيرة إمّا إلى أُجراء عند المحتلّين، أو دفعهم إلى الهجرة القسريّة من المدينة.

ويجري الآن شقّ «الشارع الأميركيّ» الّذي يهدف إلى ربط «مستوطنة أبو غنيم» مع «مستوطنة معالي أدوميم»، وهو يتمّ على حساب أراضي المقدسيّين وعلى حساب بيوتهم الّتي سيطالها الهدم، كيلا ينحرف الشارع عن مساره المرسوم، علمًا بأنّه ليس الشارع الوحيد الّذي يجري شقّه على حساب الأراضي الفلسطينيّة وبيوت المقدسيّين؛ فثمّة شبكة من الشوارع والأنفاق الّتي جرى شقّها في سنوات سابقة، ليس لخدمة المقدسيّين، وإنّما لخدمة المستوطنين الإسرائيليّين.

وثمّة آلاف البيوت في القدس وفي محيطها مهدّدة بالهدم، بحجّة عدم الترخيص حينًا، وبحجج أخرى يسهل على المستعمِرين ابتداعها حينًا آخر.

 ضرب الاقتصاد ومحاصرة الوعي

إنّ الجهات المعنيّة بالسياحة في دولة الاستعمار تسعى دَومًا لتقليص بقاء السيّاح في الجزء الشرقيّ من القدس، حيث يجعلون إقامتهم ووجبات طعامهم تقتصر على الفنادق الإسرائيليّة والمطاعم في الجزء الغربيّ من المدينة، ويكتفون بزيارات خاطفة إلى الجزء الشرقيّ منها، من دون التفكير بالنوم في فنادقها أو تناول الطعام في مطاعمها؛ يُسْتَثْنى من ذلك السيّاح المتعاطفون مع الشعب الفلسطينيّ، الّذين لا ينخدعون بالدعاية الصهيونيّة المضلِّلة. هذا السعي هدفه ضرب اقتصاد المقدسيّين.

 

ثمّة كذلك تضييق على المؤسّسات الثقافيّة الأهليّة في القدس؛ فقد تعرّض «مركز يبوس الثقافيّ» و«معهد إدوارد سعيد الوطنيّ للموسيقى» إلى عمليّات تفتيش، ومصادرة وثائق، وتحقيق مع القائمين على المؤسّستين...

 

ويدخل ضمن ذلك فرض الضرائب المتنوّعة على التجّار وعلى المواطنين، وخلق منافسة ليست في صالح التجّار المقدسيّين مع مجمّعات «رامي ليفي» التجاريّة، الّتي تبيع السلع بأسعار مخفّضة، وتجعل، مع الأسف، أعدادًا من المتسوّقين المقدسيّين لا يتورّعون عن التعاطي معها.

وثمّة عمليات منهجيّة مقصودة لتغيير أسماء الشوارع ومنحها أسماء عبريّة بديلًا من الأسماء العربيّة، وذلك لخلق وعي مزيّف في أذهان الأجيال المقدسيّة الجديدة، تلك الأجيال الّتي يجري تسريب المناهج الإسرائيليّة إليها عبر المدارس، حينًا بالتجاور مع المناهج الفلسطينيّة، وحينًا آخر بإزاحة المناهج الفلسطينيّة بشكل نهائيّ، وإحلال المناهج الإسرائيليّة المناقضة لعناصر الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة في مكانها. وفي هذا السياق، يندرج إقبال أعداد من جيل الشباب وغيرهم على طلب الجنسيّة الإسرائيليّة تحت وهم الحصول على امتيازات، ووهم حماية الأملاك من المصادرة أو الهدم أو ما شابه.

وعلى صعيد محاصرة النشاط السياسيّ المعارض لسياسات دولة الاستعمار، فإنّ دوائر الأمن الإسرائيليّة تنشط على نحو متزايد في اعتقال الناشطين السياسيّين من أبناء الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتحارب أيّ حضور للسلطة الفلسطينيّة في المدينة؛ وما إغلاق مكتب «تلفزيون فلسطين» ومكتب مديريّة التربية والتعليم»، وملاحقة محافظ القدس واعتقاله مرّات عديدة، ثمّ فرض الإقامة الجبريّة عليه، وحرمانه من أيّ اتّصال مع مسؤولين في السلطة الفلسطينيّة، إلّا دليل على ذلك.

ثمّة كذلك تضييق على المؤسّسات الثقافيّة الأهليّة في القدس؛ فقد تعرّض «مركز يبوس الثقافيّ» و«معهد إدوارد سعيد الوطنيّ للموسيقى» إلى عمليّات تفتيش، ومصادرة وثائق، وتحقيق مع القائمين على المؤسّستين. ومن قبل جرى إغلاق «بيت الشرق»، وجرى ويجري التضييق على «مركز الوثائق والخرائط» المعنيّ بمتابعة البناء الاستيطانيّ في المدينة، وفي الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 على نحو عامّ؛ في ما اضطّرّت مؤسّسات ثقافيّة مقدسيّة إلى نقل مقرّاتها إلى خارج القدس.

 

قصور السياسيين

إنّ تشبّث الفلسطينيّين المقدسيّين بالبقاء في مدينتهم أمرٌ لا شكّ فيه، وهذا أحد الركائز الكبرى لإبقاء قضيّة القدس حيّة في الأذهان على الصعد المحليّة والعربيّة والعالميّة، وهي حجر الأساس لمجابهة إجراءات التهويد وسياسات ضمّ المدينة إلى دولة الاستعمار.

وعلينا أن نقرّ من دون مواربة بأنّ الانقسام الفلسطينيّ بين الضفة الغربيّة وقطاع غزّة أدّى ويؤدّي دورًا سلبيًّا في تثبيط الهمم، سواء على صعيد القدس أم على صعيد الوضع الفلسطينيّ بشكل عامّ (مؤخّرًا ظهرت بوادر مصالحة، أرجو أن تكلّل بالنجاح).

كما أنّ الثغرات الكثيرة في أداء السلطة الفلسطينيّة وفي أداء أحزاب الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وقواها السياسيّة في مختلف أماكن وجود الفلسطينيّين، تؤدّي دورًا سلبيًّا في تحفيز المقاومة الشعبيّة في القدس وفي غيرها. يكفي أن نتذكّر الفتور الّذي قوبل به «البيان رقم 1 للقيادة الوطنيّة الموحّدة»، لكي ندرك مقدار الخلل في الوضع السياسيّ الفلسطينيّ، ومدى العزلة بين القابضين على مقاليد الأمور وبين جماهير الشعب. 

أدوات ممكنة

ثمّة إمكانات لممارسة القوّة الناعمة التي تعزّز حضور ثقافة المقدسيّين ورؤيتهم لحاضر مدينتهم ومستقبلها، ثمّة ضرورة للحفاظ على ذاكرة المدينة، وذلك بالاحتفال بذكرى كلٍّ من الرموز الثقافيّة والسياسية المقدسيّة من أمثال: خليل السكاكيني، وعبد القادر الحسيني، وإسعاف النشاشيبي، وبندلي الجوزي وآخرين، وقد افتُتِحَ مؤخّرًا معرض «طُبِعَ في القدس»، وفيه احتفاء بالمنشورات والصحف والمجلّات والكتب الّتي شكّلت جزءًا من ذاكرة القدس.

ثمّة حاجة لتعزيز دور الحركة المسرحيّة في المدينة، ولتعزيز دور المثقّفين والكتّاب والكاتبات والفنّانين والفنّانات. ثمّة ضرورة لإقامة الاحتفالات الدينيّة الإسلاميّة والمسيحيّة، ولتقديم عروض الفرق الفنّيّة والرياضيّة والكشفيّة، ولتطوير الأداء الوطنيّ لجماهير الطلّاب والطالبات والنساء والشباب، واستثمار الأرض لتقديم خيراتها للناس بديلًا من المنتوجات الزراعيّة الإسرائيليّة، وكذلك الأمر في ما يتعلّق بالسلع المحلّيّة الّتي يمكن تشجيع حضورها في الأسواق الفلسطينيّة.

وانطلاقًا من ملاحظة سابقة حول الجنسيّة، لا بدّ من قيام السلطة الفلسطينيّة وأحزاب الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وقواها السياسيّة، ورجال الإعلام والثقافة، بدحض الدعاية الإسرائيليّة المضلّلة عن الرفاه وعن الامتيازات، ليس فقط لتحصين وعي الشباب المقدسيّ وتعزيز الانتماء الوطنيّ، وإنّما لنشر الوعي في صفوف بعض العرب أيضًا، الّذين تخدعهم الدعاية الصهيونيّة عن رغبة إسرائيل في السلام، وعن مدى الرفاهية الّتي ينعم بها المواطنون الفلسطينيّون الّذين ظلّوا مقيمين في وطنهم، والّذين ذاقوا الأمَرَّيْن من الحكم العسكريّ الإسرائيليّ بعد كارثة عام 1948، حيث صودرت أراضيهم وقُلِّصَ فضاء مدنهم وقراهم، وأصبح ما يزيد عن خمسين ألف بيت من بيوتهم مهدّدة بالهدم والتدمير.

إنّ التأمينات الاجتماعيّة والصحّيّة الخاصّة بالأطفال، وبذوي الاحتياجات الخاصّة، وبالطاعنين في السنّ، وكذلك الخدمات الّتي تقدّمها بلديّة الاحتلال للمقدسيّين، لا تعادل إلّا نسبة ضئيلة جدًّا ممّا تجنيه البلديّة من ضرائب واقتطاعات من دخول المواطنين المقدسيّين، فلماذا الانبهار بالدعايات المضلِّلَة؟

وفي كلّ الأحوال، يظلّ تعزيز الحضور الفلسطينيّ في القدس بحاجة أكيدة إلى تصعيد الضغط الدوليّ لنصرة القضيّة الفلسطينيّة، وذلك عبر تحويل المساندة اللفظيّة والدعم المعنويّ إلى أفعال حقيقيّة ضدّ القمع والاعتقال والقتل ومصادرة الأرض وهدم البيوت والاستيطان والأسرلة والتهويد، ولإنهاء الاستعمار الإسرائيليّ، وتمكين الشعب الفلسطينيّ من العيش على أرض وطنه بأمن وحرّيّة وكرامة وسلام

.عن موقع عرب ٤٨