• 2 آذار 2019
  • ثقافيات

 

بقلم : مدى الفاتح

في عام 1968 نشر الفيلسوف الفرنسي رولان بارت (1915- 1980) مقاله الذي سيحظى بشهرة كبيرة لاحقاً، والذي منحه عنوان «موت المؤلف». كان المقال جزءاً من تنظيرات بارت غير التقليدية التي كانت تضع مع غيرها من الكتابات الفلسفية لرموز عصره أسس المدرسة البنيوية وتيار ما بعد الحداثة الذي تأثر بدوره بعدد متنوع من الأفكار، كانت على رأسها الماركسية والوجودية.
دعا بارت في مقاله إلى عدم التوقف كثيراً حول اسم المؤلف، كما أنه انتقد الطريقة التقليدية في دراسة الأدب، التي تعتبر أن التوقف حول الحياة الشخصية للمؤلف مهم من أجل سبر أغوار النص بشكل صحيح. كانت تلك الطريقة تفترض وجود انعكاس لا بد منه لسيرة المؤلف الشخصية على ما ينتجه.
بحسب بارت فإن أي منتَج هو في أساسه ليس نتيجة مباشرة لإبداع صاحبه وخياله بقدر ما أنه نتاج لكثير من عوامل البيئة والزمان والمكان وتراكم الخبرات المستمر بوعي أو بدون وعي منذ خلق الله البشرية وحتى وقت إنجازه. بهذه الخلاصة لا يكون المؤلف سوى مكوّن من مكونات العمل الإبداعي أو المنجَز الفني في حين تظل معظم العوامل الأخرى، وما أكثرها، في الظل.
من الأهداف الأساسية لصيحة «موت المؤلف» خلق قطيعة مع التفسير «المقاصدي» للأعمال الإبداعية الذي يعتبر أن كل عمل هو رسالة من صاحبه يريد إيصالها إلى العالم، بمقابل هذه الفكرة رأى بارت أنه ليس بالضرورة أن تكون هناك رسالة يجب أن يجتهد المتلقي في البحث عنها من خلال تفريغ كثير من الوقت لدراسة حياة المؤلف وميوله وآرائه السياسية والفلسفية. هذه المحاولة المضنية والدؤوبة للربط بين شخصية المؤلف وعمله الإبداعي هي غير ذات جدوى ولا فائدة حقيقية لها، والأولى، خاصة في مجال الأدب، هو الانغماس أكثر في النص وتحليله من خلال بنيته اللغوية وعلاقاته الداخلية الخاصة، لا البحث عن علاقة مفترضة بينه وبين مبدعه الذي انتهى دوره بمجرد أن قدم عمله إلى العالم.
كانت هذه الأفكار جديدة ومناقضة لما تأسست عليه مدارس النقد الفرنسية على يد نقاد مثل غوستاف لونسون وسانت بوف، ورغم أنه سبق بارت إليها بعض الكتاب كالروائي مارسيل بروست الذي سبق أن اعترض على ربط أعمال المؤلفين بسيرتهم الذاتية، إلا أن رولان بارت كان أهم من قام بتقعيد فلسفي للفكرة التي جعل منها دعوة نقدية موضوعية.
إن كانت النصوص الأدبية هي أول ما يتبادر إلى الذهن، إلا أن نظرية «موت المؤلف» لا تشمل فقط كتّاب الأدب بقدر ما تنسحب على جميع المبدعين في مجالات الفن والدراما والنحت والموسيقى وغيرها، بل تتعدى ذلك لتصل حتى المؤلفات السياسية والفلسفية.
أول من تفاعل من نقاد ذلك العصر مع أطروحة بارت كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو من خلال محاضرته التي قدمها في الجمعية الفرنسية للفلسفة بعد عام من إطلاق بارت لنظريته والتي جاءت تحت عنوان: من هو الكاتب؟ في هذه المحاضرة سوف يتفق فوكو مع بارت في بعض النقاط الأساسية حول استقلالية النص وضرورة تحجيم دور المؤلف، لكنه لن ينفي بشكل نهائي أهمية وجود المؤلف الذي لولاه لما كان هناك نص أو عمل إبداعي. هذه الأفكار سوف يخضعها فوكو للتطوير والنقاش من خلال محاضراته في كوليج دو فرانس وكتاباته عن «وظيفة المؤلف» و»نظام الخطاب».

تطبيق فوكو لمبدأ موت المؤلف لم يقتصر على محاضراته ومقالاته الفلسفية، بل يعتبر كثير من النقاد أنه قدّم تطبيقاً عملياً لدور ووظيفة المؤلف من خلال كتابه الشهير «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» الذي ظهر بداية السبعينيات. كان فوكو قد وضع مقدمة مفصلة وشارحة لهذا الكتاب، لكنه ما لبث أن غيرها في الطبعة التالية معتبراً أنه ليس من دور الكاتب أن يعمد إلى تقديم شرح تفصيلي لغاياته ومراده من تأليف الكتاب، بل يجب أن يكون ذلك هو دور القارئ الذي يجب ألا يحدَّد أو يوجَّه من قبل المؤلف. على القارئ، بهذا المعنى أن يخرج، بشكل أو بآخر، من سلطة الكاتب.
منذ ذلك الوقت ظهر كثير من المناقشات حول الأفكار التي قدمها بارت ومن بعده فوكو، لكن معظم هذه المناقشات لم تكن تأخذ مسألة موت المؤلف على محمل الجد كنظرية نقدية جديرة بالدراسة، بقدر ما كانت تتعامل معها كفذلكة فلسفية ناجحة على صعيد لفت الاهتمام إلى أن الأعمال، لا أصحابها، هي التي يجب أن تكون تحت دائرة الضوء. كيف يمكن أن تؤثر فكرة موت المؤلف على الطريقة التي نتلقى بها أي نص أو نستقبل بها أي عمل إبداعي؟ في الواقع فإن تجاهل وجود المؤلف يمكن أن يعتبر من أهم العوامل التي قد تساعدنا في إعادة تقييم ما هو أمامنا من أعمال على اختلاف لونها وطبيعتها وهو ما تظهر أهميته أكثر في عالمنا العربي الذي نحاكم فيه العمل محاكمة أولية نسبة لشخصية صاحبه. المثال الأقرب قد يكون خطبة الجمعة التي نقيّمها بناءً على توجه الإمام ومدرسته، فلا ننشغل بما يقول بقدر ما يحاول عقلنا الباطن تأكيد ما وصل إليه وهو أن هذا الإمام جيد ومبدع إذا كان موافقاً لآرائنا وفهمنا لدور الدين، أو غير ذلك إذا كنا قد صنفناه مخالفاً لمدرستنا في الدين أو طريقة فهمنا له. مثل هذا يمكن أن يقال عن استقبال الكتب والمقالات التي يحكَم عليها حتى قبل قراءتها، كما يصدق على غيرها من المنجزات البشرية، لكن أهمية «قتل المؤلف» تظهر في المجال الأدبي المباشر أكثر من غيرها، فهو المجال الذي يحرص فيه المتلقون أكثر على الربط بين حياة الكاتب ومؤلَّفه، فالرواية هي بشكل أو بآخر انعكاس للسيرة الذاتية وهي فرضية تغري بتتبع حياة الكاتب ومحاولة التلصص عليها للوقوف على نقاط التشابه بين أبطال القصة ومؤلفها، وكذلك الشعر، خاصة العاطفي، الذي لا نراه إلا كتجربة شخصية ورسالة شعورية يجب أن تُعامل معاملة الخطاب أو البيان المقصود.
إن كان كل هذا هو إشكالية عامة، فإنه مما لا شك فيه أن هذه التعقيدات تواجه المرأة العربية المبدعة، وتلاحقها بشكل أكثر إزعاجاً وكثافة من الرجل، فما أن تقدّم إحدى الفتيات أو السيدات نصاً أدبياً فيه شيء من العاطفة حتى يتساءل مجموع المستمعين والنقاد عن حياتها الشخصية، وعما إذا كانت مرتبطة أو كانت توجه هذا النص لشخص معين دون غيره، وهو ما يصل في بعض الأحيان درجة الملاحقة والتضييق، الذي قد يدفع بعضهن، ممن لا يتحلين بالقوة الكافية، للكتابة باسم مستعار، أو للخوف من النشر والاحتفاظ بما يكتبن في مسودات مخبأة خاصة لا تعرَض إلا لبعض الموثوقين. قد يشجع كل ما سبق لإعادة الاهتمام بصيحة رولان بارت، ليس بالمعنى الفلسفي الراديكالي الذي يقلل من أهمية المؤلفين والذي يعتبر بشكل قد يكون غير مستساغٍ أن اللغة هي الأمر الوحيد الجدير بالاهتمام، ولكن بمعنى التخفيف من انشغالنا بكل ما هو خارج إطار العمل الإبداعي، وذلك من أجل منح وقت أكبر للتركيز على تفاصيل تلك الأعمال ومحتواها.

عن القدس العربي