• 17 كانون أول 2019
  • ثقافيات

 

بقلم : محمد المطرود

 

لحظة إعدام الكتب، مناورةٌ على العنوان: حفلة توقيع الكتاب، إذ كثرت في الآونة الأخيرة الكتب، وكثر العمل على توقيعها، وجلُّ الفعل ساحتهُ أوروبا، وحصةُ ألمانيا الأكثر، ويكادُ المتابعُ أن يصدّق ما يحدث، بل يذهبُ بعيداً في التفكير بريعِ الكتاب الكبير الذي سيجنيهِ مؤلفهُ، ما يجعلُ الكاتب مثارَ حسدٍ من زملائهِ في الأصقاعِ الأخرى، حتى أنّ صديقاً كاتباً في بلد غير أوروبي أسرَّ لي أننا رغم ما نتمتعُ به من راحة وطمأنينة و«رغد العيش» كسالى، ولو تسنىّ له الوصول فسيقلبُ أوروبا رأساً على عقب، طبعاً «ثقافياً». وددتُ أنْ أصارحهُ بأنها طمأنينة زائفة، وحملَ أكثرنا شعورهُ ذاتهُ حينَ كنا في بلداننا، وكانت تزاحمنا لقمة الخبز على تفكيرنا بالكتابة!
لنا أنْ نتصوّر طابور الراغبين بتوقيع نسختهم بخطّ يد المؤلف أوروبياً، مشهدٌ يذكرك بطوابير الخبز، أو الحصول على المازوت، أو علبة الزيت أو باكيتة الحمرا في الثمانينيات إبّان إيماننا بـ» جبهة الصمود والتصدي»، وكتاباتنا على الجدران:« يا سادات يا جبان، يا عميل الأمريكان»، مشهدٌ يختفي من الحفلة العربية في بلدِ النزوح، اللهم الكتّاب الذي واتتهم الفرصة وتعاقدوا مع دور نشر أجنبية، يقول أحدُ أصدقائي بأنّ كتبهُ نفدت من المكتبةِ، ذلكَ أنّ القارئ الألماني على سبيل المثال يأتي الحفلة وهو حامل لفكرتين جوهريتين، الأولى: شراء الكتاب والتعرّف على تجربة جديدة، ولو في غيابِ شهرة الكاتب. والثانية: تشجيع الكتابة لأنّ هذه العمل جزء من اهتماماته، وله ميزانية تشابهُ ميزانية الأكل والشرب والتنّزه، ويحدثُ غالباً أن يناقشك شاري كتابك بعد حينٍ، أو يكتب إليك بملاحظاته في ما لو وفرت له هاتفك أو إيميلك، هذا يعني: الكتاب قُرءَ وأنت مسؤول أمام قارئ يختلف عنك، أشعرك بالمسؤولية لأنّه نفسهُ تحمّل مسؤوليته تجاهك.

القارئ المفترضُ هنا أو الشريحةِ المعنيةِ بالكتابِ من المتعلمين ندرة أمام المتعلمين الأميين، بل يتباهى متخرّج في الجامعة بعدم قراءته لكتب خلاف الكتب المدرسية على مرّ مراحلهِ، وهو في الوقت نفسه يسمي نفسهُ مثقفاً، ويتفكّه على نص يسمعهُ لا يذكره بإيليا أبي ماضي والمرحوم عمر الفرّا، وقصيدة النثر لديه «خربشات دجاجة»، أحدهم خرجَ من أمسيةٍ قبل أن يشتري كتاباً، وعندما عوتبَ، قال بما معناه: الثمن الذي يدفعه في كتاب، يشتري به سندويشة دونر، يدفئ بها معدتهُ أفضل، لا يقتصرُ الأمر على هذا (المثقف) بل يتعداه إلى مثقف، دونَ وضعِ القوسين، لا بأس أنْ يتحصّل الكتاب موقّعاً ومجاناً، لكن أنْ يشتريه فلا، كونهُ لم يعد يقرأ إلا نفسهُ، وقد يرى إهداء الكتاب بلا ثمن تبخيساً لهُ، لكنهُ يقترب منكَ ويسألك: «شو ما يطلعلي نسخة من الكتاب؟».
في المقابل هناك قراء حقيقيون يتواصلون مع كاتبهم برغبة حقيقة في الحصول على الكتاب، وهنا يجد الكاتب حاله أخلاقياً يترفّع عن طلب ثمنهِ، فيذهب على شكل إهداء، ويظهر هنا معدنُ هذا الطالب كقارئ مسؤول، يتحمل مسؤولية الاحتفاء بما وصلهُ، ومن ثمَّ الرأي، وفي حالتي شخصياً تلقيت هدايا قيمتها المعنوية عالية، وقيمتها المادية تساوي ثمن عشرات النسخ إن لم أقل أكثر، وعلى الضفةِ الأخرى يصرّ آخرون على الحصول على الكتاب، وترسله وتنتظر طويلاً كلمة الشكر أو الإعلام بالوصول بدون جدوى، فتسأل، ربما أخطأ ساعي البريد العنوان، فيأتيك الجواب: «شكراً وصل»!
إن حفلة إعدام الكتاب كعنوان جائز أكثر من توقيع، وهذا طبيعي وفقَ الخذلان الذي يعيشهُ الموقّعُ ليس من قراء بعيدين، بل من أصدقاء لهُ، يجدون أنفسهم في مرمى عطايا الصديق الكاتب، وبالتالي الاكتفاء بالحضور، ومن ثمّ الحصول على الكتاب انطلاقاً من «حياء» الصديق أو حرصهِ على أن يقرأوه، أعتقد أن «وقّعتُ كل النسخ» نسبة إلى عدد الحضور، أفضلُ من «وقعتُ نسخاً قليلةً، في أول توقيع لكتابي «آلام ذئب الجنوب» في مدينة كولن كان عدد النسخ التي بيعت13 نسخة مع أنّ 6 نسخ منها اشتراها ألمان لا يقرؤون ولا يكتبون ولا ينطقون بالعربية!
أستطيعُ أنْ أجزم أن الثقافة ليست بخير، بل إنْ تباهياً عند بعضهم بالبعد عن الثقافة ومشاغلها، وهم أقربُ إلى إضاعة وقتهم بـ»الشّدّة» أو ألعاب أخرى، كان يمكن لهم أن يعطوا بعض الوقتِ لما يروهُ جزءاً مهمّا في البلد البديل الذي يعيشون فيه، مؤخراً هناك تجمعات نسائية وترفيهية تستقطبُ متلقيها بتوزيع علبة طحينية صغيرة، أو «بابا غنوج» أوشكت صلاحيته على الانتهاء كنوعٍ من الدعاية، لا أدري ما إذا كان على الكاتب في دعوتهِ لحفلة توقيع كتابه أن يرفقَ هو الآخر مع كلّ نسخة علبة طحينية أو مربى مشمش أو كروز متة !

عن القدس العربي