• 26 كانون أول 2020
  • ثقافيات

 

 بقلم : تحسين يقين

 

"اعتبرت سقوط بلدة عرابة عام 1859، وهي مركز آل عبد الهادي، إحدى الوقائع الكبرى في تاريخ فلسطين وما يجاورها، الى جانب وقائع أخرى بالغة الأهمية، مثل حملة المصري إبراهيم باشا على فلسطين وبلاد الشام، والسؤال الآن: لماذا عرابة ولماذا عائلة عبد الهادي؟" تلك كلمات اقتبسها د. فيصل دراج في مقدمته لكتابه الذي بين أيدينا، من كتاب بشارة دوماني في كتابه "إعادة اكتشاف فلسطين-أهل جبل نابلس 1700-1900"، حيث فوجئ د. دراج، ونقل ذلك لنا، فشوقنا فعلا لقراءة الكتاب" آل عبد الهادي في تاريخ فلسطين: أقدار وطن ومآل نخبة وطنية".

لعل هذا المآل إلى مآل آخر؛ فما زال دوما متسع للإنجاز، ف"على هذه الأرض" ما يستحق ذلك.

أمران خرجت بهما أثناء وبعد قراءة الكتاب، وهما مرتبطان معا:

الأول وهو ما مهّد به الانجليز قبل احتلال فلسطين بعقود، أن تصبح بلادنا بدون قيادة فاعلة فعلا، أو في أحسن الظروف اقتتال عائلات عليها، حيث يسهل ضبطهم وإخضاعهم. وبالطبع فإن هذا ما يفسّر لم اعتبر سقوط عرابة أمرا مهما في تاريخنا.

ثانيا، الوقوف عند شخصيتي الشيخ حسين عبد الهادي، وحفيده عوني عبد الهادي؛ لما انطوت على شخصيتهما، وفيهما، من عوامل التكوين والفاعلية، وإلى أي مدى تجلى ذلك، وأين وقف؟ ولماذا؟

-       ......................

-       تلك قصة البلاد، يا صاحبي.

منذ أواخر الحكم العثماني، حتى الآن، وفلسطين تسعى للتحرر، والحداثة معا، كأن قدرها هو التنوير، وكأن قدرها أيضا، حتى وهي تحت الاحتلال، أن تقود التنوير العربي، كما كانت على مدار قرن ونصف، ولولا ما كان من محاولة جادة لاجتثاث التنوير العربي، بعمقه الفلسطيني، عام 1948، لكان حال العروبة بخير أكثر وفلسطين في القلب.

أعادني كتاب دكتور فيصل دراج "آل عبد الهادي في تاريخ فلسطين" أقدار وطن ومآل نخبة وطنية"، إلى الآن فعلا، وهذا يعني أن مسالة الانتخابات مهمة جدا لاختيار القادة شعبيا، حتى نستمر، لكن بكثير من الإبداع.

لا شك أن رجوع الدكتور دراج للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان مهما، لتأمل صعود نجم الشيخ المؤسس حسين عبد الهادي، من ابن مختار في بلدة صغيرة هي "عرابة" غرب جنين، إلى حاكم ليس للشمال الفلسطيني بدءا بنابلس، بل وصولا لجنوب لبنان وسوريا، في ثلاثينات القرن التاسع عشر، مذكرنا (طبعا باختلافات كثيرة) بكل من الظاهر عمر الزيداني، وبمحمد علي باشا، الذي في مرحلة معينة تحالف مع ابنه ابراهيم حين سيطر على الشرق العربي، بدءا ببوابات فلسطين؛ بسبب بنية الدولة العثمانية، وبعد مركزها من ناحية، وضعفها في جوانب أخرى، ما دفعت الى تشجيع الاستقلال، أو لعله الحكم الذاتي الأوسع.

ولم يكن الانجليز المطلعون، من خلال القناصل والرحالة، ومنهم رحالة هي شقيقة أحد هؤلاء القناصل، فرحين بوجود حاكم يتمتع بمزايا القوة التي لا تؤهله فقط ومن بعده للاستقلال، بل وحماية البلاد؛ فقد انتبه الشيخ حسن الى التنوير الفعلي، فعرف قيمة العلم، وقيمة الأملاك الزراعية، وقيمة الاندماج بالقاعدة الشعبية. بل وعقد التحالفات مع ابراهيم باشا، ومحاولته الجادة أن يكون ندا، فدفع ثمن تدبير التخلص منه.

كان لا بد من تدمير هذه القيادة، من خلال ضرب عرابة، مركز هذا الحلم، فكان أن أغرى الانجليز العثمانيين، بضرب عرابة، كقيادة متمردة، مذكرينهم بالتحالف مع ابراهيم باشا، فكانت مأساة تدمير عرابة عام 1859، بداية ضرب القيادة القوية المحتمل اتساعها في فلسطين، وهو ما دفع بالمؤلف فيصل دراج الى اقتباس ما أورده د. بشارة دوماني عن دلالة ذلك، في كتابه "إعادة اكتشاف فلسطين، أهالي جبل النار من 1700الى 1900".

لذلك، وكما يخلص الكاتب، فقد وصلنا الى "وعد بلفور"، وفلسطين على تلك الحال من ما يمكن لي أن اسميه بفراغ الحكم.

من المهم هنا استقصاء سلوك الشيخ حسين عبد الهادي، من حيث تحالفه مع إبراهيم باشا في سياق هدف سياسي، لا وظيفي، وليس خلاصا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا للعائلات، حيث اختلف الشيخ حسين، واخوته وأبناؤه، في علاقاته عن منظور التفكير العائلي في نابلس وغيرها. وأظن أننا بحاجة هنا ليس إلى استقصاء فقط، بل إلى إيجاد قيادة ونخب يكون الخلاص العام الوطني والقومي هو هدفها الأسمى، والأكثر نبلا ومسؤولية، وهذا ما وجد في حزب الاستقلال، حيث انتمى له متنورون من عدة عائلات بعديا عن "النفس" العائلي.

 ولعلي أذكر ما حاول حفيد الشيخ حسين وأقصد به عوني عبد الهادي؛ أن يفعله، من خلال العلم والتفكير الجدي بالمواطنة، حتى ليعد حزب الاستقلال العربي تتويجا لذلك الفهم المعمّق، (كتب عن الحزب المرحوم دكتور سميح شبيب)، من حيث الاندماج بالجمهور بعيدا عن العائلية السياسية.

لكن كان ما كان في الثلاثينيات، وكيف تم الإجهاض على الثورة والإضراب بوعود هزيلة، في سياق اجتثاث التنوير الفلسطيني في الأدب والصحافة والتعليم، وصولا لنكبة عام 1948، التي كانت ايضا نكبة للتنوير، الذي كان عوني عبد الهادي في عمقه سياسيا ومناضلا ومفكرا.

لكن للأسف الشديد، نعاني في بلادنا من نقص حاد في تعليم الجيل الجديد عن:

-       الحضارات القديمة.

-       التاريخ الاجتماعي والسياسي ولاقتصادي والثقافي آخر 3 قرون.

-       التاريخ المفصل بأحداث وشخصيات النصف الأول من القرن العشرين.

فعلا، وفّق د. فيصل دراج في عنونة كتابه: أقدار وطن ومآل نخبة وطنية، بدافع إعادة فهم ما كان، من أجل عودة الروح لبث روح نخب وطنية متنورة، تبني على هذا الإرث من القرنين التاسع عشر والعشرين، وتستلهم من الحركة الوطنية المعاصرة فعاليتها ودورها.

ليت أقسام التاريخ في جامعاتنا تدرج الكتاب كمساق لما له من أهمية استراتيجية، خصوصا أنه بحث علمي لمفكر أيضا، استخدم فيه الكاتب قدراته وخبراته، في تناول هذا النموذج التاريخي، بدءا بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للعائلة والبلدة، رابطا بين الشيح حسين عب الهادي والمفكر والقائد الحديث عوني عبد الهادي الحفيد مؤسس حوب الاستقلال، مرورا باستعراض حال فلسطين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والأجيال الجديدة، بتركيز على وجهين نسائيين، هما طرب عبد الهادي وعصام عبد الهادي، وصولا لشهادة اثنين هما سمير نعيم عبد الهادي وسعد قاسم عبد الهادي.

-       اقرأوا تاريخ..وتخيروا الكتب!

هل يعيش الإنسان أو الشعب بدون رأس حقيقي ناضج وعقلاني ومتنور وشجاع؟

بعض البلاد هزمت بعد سقوط العواصم، وبعض البلاد سقطت بعد قطف الرؤوس!

وما نعيشه اليوم، ليس بعيدا عن الأمس؛ فهلا ذكرتم ما حل ببلاد قريبة يوما، حين سيطر الانجليز والفرنسيون على الخارجية والمال، بعد سياسة الإغراق بالديون، وأن تلك البلاد عاجزة أن تدير أمورها المالية والسياسية؟

وهل كان الانتداب على بلادنا العربية بعد سقوط الدولة العثمانية، إلا مبررا بأنه لم نكن في وضع نملك القدرة على الحكم، حيث تم تقسيم البلاد الى مستويات، (فلسطين كانت من أفضل المستويات وهي الأحق بالاستقلال) كما كتب في صكوك الانتدابات؟

تلك قصة حدثت وما زالت، لخلق شلخ بين الشعب والقيادة، حين يتم توريط النخب الحاكمة بأنواع من الفساد والخلاص الفردي، فتصبح البلاد فعلا بدون زعامة قوية، فيلجأ المواطنون للخلاص الفردي، لا الاهتمام الجدي بالخلاص العام، وهنا، يتم تمرير الصفقات والاتفاقيات الهزيلة، في ظل انشغال الناس بهمومهم الشخصية، إنه علم نفس الشعوب إذن!

فهل وصلنا الى هذه الحالة أم أن هناك أملا! هناك بالطبع كل الأمل، ما دمنا فعلا وقولا لم نفرّط بالثوابت الوطنية، ولا بالمشروع الوطني بشكل عام.

هنا يصبح للحكم الرشيد والمتنور والديمقراطي الفعلي معنى مقاوما فعليا، يصعب كسره وترويضه، لأنها ببساطة إرادة الشعوب التي تنتصر دوما ولا تقهر.

 نقرأ الأمس لنفهم اليوم وعيوننا نحو الغد..

 صدر الكتاب عن دار الأهلية، عمان، الاردن،