• 25 كانون أول 2023
  • من اسطنبول

 

 اسطنبول - أخبار البلد - من منا لا يعرف حي اسكودار الرائع الجميل القديم والذي كان ولا زال يمثل الدفء الاسطنبولي التقليدي، في هذا الحي هناك أغنية هي الأكثر شهرة في تاريخ الإمبراطورية العثمانية ومن بعدها تركيا والشعوب الاخرى  وحتى العرب بلحنها المعروف ، تلك الاغنية تحمل اسم " الذهاب الى اسكودار"  وعن هذه الأغنية كتب الصحفي  صادق الطائي في صحيفة القدس العربي  مقالة رائعة بعنوان لغة العرب والذهاب الى اسكودار ، ويسعدنا ان نعيد نشرها  مرة اخرى  واليكم التفاصيل :  

"مع احتفالات اليوم العالمي للغة العربية في 18 كانون الأول/ديسمبر تذكرت أغنية المنشد والملحن العراقي الشيخ عثمان الموصلي، التي يقول مطلعها:
لغة العُرب اذكرينا واندبي ما فات …. كيف ننساك وفينا نسمة الحياة
لكن لحن هذه الأغنية فتح أمامي صندوقا مليئا بالمفاجآت، إذ حمل تاريخا حافلا للامبراطورية العثمانية، تداخلت فيه ثقافات شعوب البلقان بثقافات الشرق الأدنى، هذا التاريخ الثقافي الذي تحكيه قصة رحلة أغنية باتت تعرف عالميا باسمها التركي (الذهاب إلى أسكودار، أو سكودارا جيدر إيكن) التي عرفت لاحقا باسمها المختصر (كاتبي- كاتبيم).
بقي الجدل حول أصل اللحن محتدما، وهناك عدد من النظريات المتضاربة حوله. إذ تنسبه بعض المصادر العربية إلى الملحن العراقي الملا عثمان الموصلي، بينما يقول آخرون إن الفرق العسكرية الأسكتلندية التي انتشرت في إسطنبول أثناء حرب القرم في الفترة من 1853 إلى 1856 كانت تعزفه بانتظام. ويدافع آخرون عن أصول اللحن الأرمنية قائلين، إن الأغنية قُدمت لأول مرة عام 1883 في أوبريت «ليبليميتزي هوربوراجا» من تأليف دهران تسوهاتسيان، وبعد ذلك أصبحت أغنية ذات شعبية كبيرة في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية.

مهرجان كتابيم تجربة حياة ووعي واستنطاق للتراكم الثقافي للمنطقة، والأهم من ذلك أنه طريق حقيقي للتعايش السلمي بين مختلف الفرقاء

وربما تدعم هذه النظرية أيضا حقيقة أن أول تسجيل للحن تم بواسطة علماء الموسيقى الألمان عام 1900 بصوت صبي أرمني من شرق الأناضول من مدينة غازي عنتاب. ومع ذلك، لا يمكن البت في أي من هذه النظريات، ولا يمكننا إلا أن نقول إنها أغنية حضرية متأخرة نسبيا من القرن التاسع عشر. وتشهد على ذلك حقيقة أن نسخها في مختلف مقاطعات الإمبراطورية العثمانية لا تزال موحدة بشكل مدهش، وقد بقيت في كل مكان كأغنية حضرية، وليس أغنية شعبية فلاحية.
تقول كلمات أغنية (كاتبيم) التركية:
هطل المطر أثناء الذهاب إلى أُسكودار
وتلطخت أطراف سترة كاتبي الطويلة بالطين
استيقظ الكاتب من النوم وعيناه ناعستان
الكاتب لي، وأنا له، فما شأن الآخرين؟
كم يليق القميص المنشى بكاتبي!
وجدت منديلا أثناء الذهاب لأسكودار
ملأت منديلي بالحلوى
وجدت كاتبي بجواري وأنا أبحث عنه
الكاتب لي، وأنا له فما شأن الآخرين؟
وقد كتب خليفة كيوان قصة الاغنية بطريقة معقلنة إذ قال: «في حدود عام 1911 وفي الإستانة كان هناك كاتب (درجة وظيفية بيروقراطية عثمانية) مصري ينتمي إلى جيش الدولة العلية اسمه عزيز، يتدثر بمعطف طويل ويضع على ياقته منديلا مطرزا بزهرة القرنفل. كان هذا المنديل للتو مملوءا بالحلوى العصملية (الراحة، أو الحلقوم)، المعجونة بماء الورد، أخذ يمشي ببطء متجها إلى أسكودار، حيث تتمركز قوات الجيش العثماني هناك، غير مبال بالأوحال التي علقت بمعطفه. وروحه تنتشي بالمنديل، وبالحلوى وباليد الغضة التي أهدته كل هذا الحب، عندما أخذت البنت تغني بعفوية عن حبيبها الكاتب الذي علقت الأوحال بمعطفه وهو يحمل المنديل الذي ملأته بالحلوى.. ثم يمضي في طريقه إلى أسكودار.
يشير تاريخ الملا عثمان الموصلي، أحد أشهر المنشدين والملحنين العراقيين نهايات القرن التاسع عشر، أنه عاد إلى مدينته الموصل قادما من العاصمة إسطنبول، ونقل معه أغنية (الطريق إلى أسكودار) إلى بلدان الشرق الأدنى (العراق، والشام ومصر) إذ انتشرت تنزيلة موصلية (وهو قالب غنائي يشبه القدود الحلبية، يمكن تعبئته بكلمات متنوعة غير الكلمات الأصلية)، عندما أنشد الموصلي تنزيلة بعنوان (آل الرسول المرتجى)، فتوالد من هذه التنزيلة الكثير من الكلمات التي مرّت على هذا اللحن في بلاد العرب، وربما كانت الأغنية الأشهر للملا عثمان نفسه هي أغنية (لغة العرب اذكرينا) التي سجلها لاحقا قارئ المقام العراقي الشهير يوسف عمر في العراق. وكذلك تنزيلة (وقفت بالذل في باب عزكم)، والأغنية المعروفة (يا عذولي لا تلمني). ثم أغنية (غزالي غزالي) في بلاد الشام، وفي مصر أغنية (يا بنات اسكندرية)، وأخيرا معالجة الأخوين رحباني الذكية في أغنيتهم (شط اسكندرية).
ظهرت الأغنية رسميا في أول تسجيل تركي لها عام 1948 عندما غنتها واحدة من ألمع نجوم الغناء التركي الحديث، المطربة صفية أيلا زوجة الشريف محيي الدين حيدر، أبو الموسيقى العراقية الحديثة لاحقا. ولأن الحكايات تقول إن الكاتب الوسيم الذي تُلمِح إليه أغنية الحب المغناة بلسان امرأة عاشقة كان شخصا حقيقيا، وكانت نساء اسطنبول مجنونات به، لذلك عندما أنتج الفيلم التركي الكلاسيكي «الكاتب» عام 1968، لعب المغني والممثل الوسيم زكي موران دور الكاتب في الفيلم، وكانت الموسيقى التصويرية تنويعات على أغنية «الطريق إلى أسكودار».
في عام 2003 تتبعت المخرجة البلغارية أديلا بيفا رحلة أغنية (الذهاب إلى أسكودار) في فيلمها الوثائقي الذي حمل عنوان (لمن هذه الأغنية؟) إذ بحثت عن جذورها في رحلة انطلقت من تركيا إلى اليونان وألبانيا والبوسنة وصربيا وبلغاريا، لكنها في النهاية لم تجد جوابا شافيا لهذا السؤال: لمن هذه الأغنية؟
وتعلمنا الدراسات التي اعتمدتها أديلا بيفا في فيلمها، إن هذا اللحن انتشر في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، واعتمدته كل أمة، وتتشابك القصة الطويلة لتعرجاته وتحولاته، مع ذلك العالم الموسيقي والثقافي الغني والمعقد، الذي كانت تعيشه مجتمعات الإمبراطورية العثمانية. ويقدم الفيلم صورة للظروف والتوترات الحالية في دول البلقان. ويبين كيف تستخدم المجتمعات المختلفة الأغنية كرمز لهويتها، حيث يرى البعض اللحن كحلقة وصل مع الآخر، بينما يفسر البعض النص والسياق المختلفين للحن كجدار عازل عن الآخر. وتقع بيفا نفسها في مواقف خطيرة نتيجة ذلك، إذ حاول صربي ضربها عندما عزفت لهم النسخة البوسنية بجهاز التسجيل الخاص بها، وفي مهرجان الجبل البلغاري تعرضت للتهديد بالموت، إذا تجرأت على القول بأن اللحن من تركيا.
في البلقان، كانت هناك إصدارات عديدة من الأغنية في بلدان هذه المنطقة، بدءا من أغنية موسيقية شهيرة من الخمسينيات في بلغاريا، إلى كلمات مختلفة ذات مواضيع حب في صربيا ومقدونيا الشمالية وألبانيا. ولكن مثل أشياء كثيرة في البلقان، حتى الأغنية يمكن أن تحمل حمولات سياسية، وفي خضم الحماسة القومية التي بدأت في البلقان في القرن التاسع عشر، ادعى الناس من كل مجموعة عرقية تقريبا – أو على الأقل افترضوا – أن الأغنية كانت خاصة بهم، ولم يتخيلوا أنها يمكن أن تكون مملوكة للجميع، بمن في ذلك الذين يعتقدون أنهم أعداء لهم.
لكن هذا الفيلم والأغنية ألهم مشروعا للاتحاد الأوروبي، الذي دعم مشروع «أغنية الجميع – الموسيقى كأداة لتعزيز التنوع والتفاهم بين الثقافات» في عامي 2007 و2008، ومن خلال دورات وفعاليات وحفلات موسيقية تعاون فيها موسيقيون شباب من البلقان، حاولوا اكتشاف جذورهم الثقافية المشتركة، كما وضحوا على صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، التي شهدت إصدارات مختلفة لهذه الأغنية عبر العديد من التسجيلات، حتى في أماكن لا تخطر على البال مثل أوزبكستان وماليزيا وأمريكا.
أسكوادر، هذه الحي الإسطنبولي الجميل، الذي كان يسمى «أسكي دار» ويعني الدار القديمة، ولا يزال حتى اليوم يشعر زائره بأنه في زيارة للدار القديمة التي تجمع العائلة، حي أسكودار كان في ما مضى ضاحية منفصلةً عن إسطنبول، واليوم أصبح جزءا من المدينة، حيث يتم الاحتفاء في هذا الحي التاريخي بأغنيته الشهيرة التي ألهمت أهالي إسطنبول فأطلقوا مهرجان (كاتبيم) عام 1988 والمستمر حتى الان. لقد أصبح مهرجان (كاتبيم) رمزا كلاسيكيا لثقافة وتراث المنطقة، عبر تنظيم أحداث أكثر تنوعا وحضورا كل عام، حيث بات المهرجان يقدم أنشطة مختلفة خارج منطقة أسكودار، وانتشرت النشاطات في مناطق مهمة في إسطنبول مثل كاديكوي، وبشيكتاش، وتقسيم، والسلطان أحمد. واليوم أصبحت عشرات الفعاليات تقدم في هذا المهرجان الذي يشمل الرقصات الشعبية والحفلات الموسيقية، وكذلك ألعاب الأطفال وبطولات الشطرنج، بالإضافة إلى مسابقات التصوير الفوتوغرافي والرسم ومسابقات السباحة وألعاب القوى. مهرجان (كتابيم) اليوم ليس مجرد تسلية، إنه نشاط ثقافي يساهم في الاندماج الاجتماعي عبر ما يُقدم من أنشطة، وهو تجربة حياة ووعي واستنطاق للتراكم الثقافي للمنطقة، والأهم من ذلك أنه طريق حقيقي للتعايش السلمي بين مختلف الفرقاء.