• 22 آب 2020
  • إقتصاد وحياة

 

بقلم :  الدكتور أمجد شهاب


 كان أول استخدام لمسمى الغرفة التجارية في باريس عام 1601 لدراسة المشكلات الصناعية والتجارية، حيث تم إنشاء غرفة مرسيليا في عام 1599؛ وقد كانت الغرفة الأولى بالمفهوم الذي يستخدم فيه مصطلح غرفة التجارة الآن، حيث تم تأسيس عدد من هذه المنظمات (الغرف التجارية) خلال القرن الثامن عشر، وألغيت الغرف خلال الثورة الفرنسية في عام 1791 وأعيد تأسيسها من قبل نابليون في عام 1804، وقد أعادت التشريعات لاحقًا تحديد وظائفها ومهامها ودستورها.

 أصبحت غرف التجارة موجودة في جميع أنحاء العالم في القرن العشرين، وتقوم بدور فعال بدعم الحركة التجارية والتجار من خلال تمثيل مصالح أعضاء الغرفة لدى السلطات المحلية والوطنية. وإقامة المعارض والندوات الاقتصادية وإصدار شهادات المنشأ، وتقديم المشورة بشأن رسوم الاستيراد والتشريعات التجارية، والتوجيه والإرشاد وطرح المشاريع، وتوقيع الاتفاقيات ومشاركة الأعضاء في صياغة السياسة المتعلقة بالبيئة التجارية والاقتصادية ...إلخ.

تأسست الغرفة التجارية بالقدس عام 1936 ترأّسها في البداية وكيل شاي ليبتون في فلسطين: الانجليزي شيلي، وسيطر على الغرفة التجار اليهود، مما اضطر الشخصيات المقدسية آنذاك إلى الانفصال عنها وتأسيس غرفة تجارة. وبعد النكبة عام 1948 فتحت الغرفة أبوابها بحي المصرارة ومن ثم انتقلت الى شارع الزهراء حتى تاريخ إغلاقها من قبل الاحتلال عام 2001، وانتقلت إلى دوار الضاحية وبدأ دورها يضمحل واقتصر عملها على جمع رسوم الاشتراك وإصدار شهادات المنشأ وبعض الدورات التدريبية الممولة هنا وهناك....

وبدأ الصراع للسيطرة على الغرفة التجارية - رغم أن دورها بعد الإغلاق أصبح رمزيًا - مع تدهور صحة الرئيس التاريخي للغرفة الحاج أحمد هاشم الزغير منذ عام 1989، قدم خلالها أكثر من 120 مشروع، بالإضافة لمتابعة ملفات هدم ومخالفات بناء البيوت وتقديم المساعدات المالية للمتضررين من سياسات الاحتلال بالمدينة...إلخ. أصبحت الغرفة التجارية يتيمة تمامًا بعد رحيل رجلها القوي والذي كان يتمتع بصفة لا يشاركه أحد بها اليوم وهو الإجماع حول شخصه.

ومع تراكم الأزمات بين الانتفاضة الاولى والثانية وسياسة تهويد القدس وانتفاضة البوابات الالكترونية والإغلاقات والجدار العنصري على التاجر المقدسي أصبحت فكرة الاعتماد على المساعدات المالية المحلية والخارجية ثقافة لدى عدد كبير من التجار.

واليوم يتساءل كثير من التجار: هل تملك الغرفة التجارية طاقم مهني متخصص للتواصل مع التجار للتعامل مع مشاكلهم؟ مع الذكر أنّ التجمعات التجارية الاسرائيلية القريبة من القدس تعج بالمتسوقين المقدسين، فالسؤال المطروح لماذا التاجر المقدسي يفشل والإسرائيلي ينجح؟

ويتساءل تجار آخرون: لماذا لم تفعل - حتى الآن - الغرفة التجارية أي أبحاث دراسات جدية أو استطلاعات رأي لتحديد المشاكل الأساسية التي يعاني منها التاجر المقدسي؟

ويتساءل أحد التجار الكبار طلب عدم ذكر اسمه: بما أنّ الغرفة التجارية لا تملك أي ميزانية أو طاقم متخصص (محامين أو مستشارين للضرائب أو للتسويق )، فماذا تفعل؟ وما الهدف من استمرار بقائها مفتوحة؟

وهنا يدور الحديث عن تجار كبار بالسن يطرحون سؤالاً رئيسيًا واحدًا: كيف تحوّل التاجر من منتج ومساعد بالصمود ومساعد للآخرين إلى متسوّل ويلهث وراء مبلغ ألف دولار لا يطعم ولا يسمن من جوع؟

ويعتبر كثير من التجار أنفسهم أحد الأعمدة الرئيسية في القدس، والمحرّك الأساسي في عمليات إغلاق المحلات، والداعم الحقيقي للقيادة الموحّدة أثناء اندلاع الانتفاضة الأولى وللسلطة اليوم، لذلك يعتقدون أنّ استلام المساعدة كواجب وفرض عين على السلطة، وهنا ممكن القول أنه حدثت علاقة صعبة جدًّا بين التجار والسلطة (الغرفة التجارية)، علاقة يشوبها عدم الثقة واللوم والاعتماد على وهم المساعدة. بعكس ما هو متعارف عليه بأي بلد بالعالم أن التجار هم أحد أعمدة دعم المواطنين وليس العكس ؛ فمفهوم الاعتماد أصبح عقدة وخاصة أنّ بعض التجار لا يحتاجون للدعم الرمزي المادي بسبب وضعهم المادي الجيد جدًّا.

لو استخدمنا نظرية المساحة والوقت والحركة التي تعتمد عليها الشعوب تحت الاحتلال لوجدنا بأن هناك تقصير خطير، حتى لو أن الغرفة التجارية مغلقة بقرار من الاحتلال منذ عام 2000. وأتذكر جيدًا خلال عملي كمدير العلاقات العامة بجامعة الخليل عملتُ دراسة تحت عنوان: كيف استطاع التجار بمدينة الخليل من تجاوز أزمة الانتفاضة الأولى والثانية والحفاظ على إنتاجيتهم دون الاعتماد على المساعدات الخارجية، ومن خلال زياراتي الميدانية للمنطقة الصناعية هناك ومقابلتي مع عدد كبير من التجار الناجحين، توصلتُ إلى استنتاجات قادتني إلى نظرية الاعتماد على الذات، وهي أفضل السبل للنجاح الحقيقي (المؤسسات التجارية بالخليل كانت تعتمد على العمل الجماعي وخاصة العائلي في البناية للعائلة والعمال أيضًا ..إلخ).

وقد يختلف بعض الاشخاص بالحديث عن مدينة القدس بسبب وضعها المختلف وكثرة الضرائب وسياسة التهويد وإفراغ المدينة، ممّا يضع الحمل على أهلها بزيادة وعيهم وجهودهم والبحث عن حلول إبداعية بالرغم من استخدام إسرائيل وزارة السياحة والمرشدين السياحيين كأداة لتهويد القدس، ودعوة السياح من خلال الوزارة والمرشدين لعدم شراء البضائع من التاجر المقدسي، مما أدّى إلى تدهور الحالة المادية لكثير من التجار الذين يعتمدون على بيع منتجاتهم لسواح المدينة المقدسة، مما يؤدي إلى تحمل الغرفة التجارية والسلطة الفلسطينية عبئًا أكبر ويكشف حالة من الشلل والعجز على المواجهة أو حتى وضع آلية عمل لإنقاذ ما يمكن انقاذه. وإذا فُقدت المساعدات سيضيع التاجر بين مفهوم الانتظار وبين تحميل الاحتلال كامل المسؤولية دون إعطاء أي جهد يُذكر للبحث عن بدائل يمكن من خلالها أن ينجو، وخاصة أنّ كثيرًا من المحلات يبلغ ثمن خلوّها التجاري حوالي مليون دولار أمريكي.

وهنا ممكن الاستشهاد بالمثل الصيني: "لا تعطيني سمكة ولكن علّمني كيف اصطاد" ربما يرى البعض أن هذا المثل الشعبي في ظاهره مجرد كلمات عابرة ولكن حينما نرى أن تطبيقه على أرض الواقع في جمهورية الصين الشعبية في مجال الصناعة والتجارة والزراعة أدى الى تحقيق نهضة حقيقية وحوّلت الصين من مجرد مستهلك إلى منتج، ومن دولة من العالم الثالث إلى ثاني دولة اقتصادية في العالم، ونتذكر جيدًا النموذج الياباني والألماني بعد الحرب العالمية الثانية – باختصار - اعتمدوا على نظرية الاعتماد على الذات.

أكبر إهانة وجّهت للتاجر المقدسي هي توزيع الطرود الغذائية التي لا يتجاوز محتواها 150 شيكل بالوقت الذي يتجاوز قيمة محلاتهم التجارية (خلو الرِّجل) مليون دولار أمريكي، ويلهث بعض التجار الميسورين للحصول على مبلغ ألف دولار الموعود منذ 3 سنوات حسب تصريح أحد مسؤولي لجنة تجار القدس. 

إنّ البدائل المطروحة عديدة للخروج من الحالة المزرية التي تعيشها المدينة المقدسة بدل انتظار مساعدات ودعم لوجستي مفقود؛ فالتجار المقدسيون بحاجة ماسة للاعتماد على ذاتهم من خلال العمل الجماعي لإيجاد أفكار إبداعية لحل مشاكلهم العديدة وخاصة المعضلة الرئيسية التي يعانون منها، وهي ضعف القدرة الشرائية في المدينة. على سبيل المثال، يتم ذلك من خلال تشكيل مجموعات متخصصة بشراء منتوجات مختلفة حسب حاجة السوق، وبكميات كبيرة بسعر الجملة، وتوزيعها على التجار بدل شرائها بشكل انفرادي، وطرحها بأسعار ممكن أن تنافس مع المراكز التجارية الاسرائيلية، وتشد انتباه الزبائن، وعمل عروض وأيام مفتوحة لجلب المقدسيين وغيرهم إليهم، بدل الذهاب للتسوق بالمراكز التجارية الأخرى. وتدريب التجار - مهم جدًا - على كيفية التعامل مع الضرائب والحسابات والتسويق والدعاية ....إلخ. وهذا لا يتم إلا من خلال دراسات ميدانية باتجاهات عدة تركّز على حاجة المقدسيين والزوار من منتوجات بجودة ممتازة وأسعار تنافسية ودعاية في متناول الجميع وبحث افكار ايجاد اسواق متخصصة بمنتوجات معينة...إلخ.

والذي لا يعرفه التاجر المقدسي بأنه يعيش بشهر عسل حقيقي بالنسبة للأيام المقبلة القادمة التي ستكون حتمًا أسوأ بكثير مما يعيشه حاليًا. وخاصة بين الفعل المطلوب المفقود وبين وهم الدعم وتحميل الاحتلال كامل المسؤولية.