• 22 تموز 2016
  • أقلام مقدسية

 

بقلم :  د عبد الحميد صيام

جرت محاولة انقلاب فاشلة مساء الجمعة /صباح السبت في تركيا للإطاحة بالرئيس المنتخب رجب طيب أردوغان وحكومته، وإعادة مقاليد الأمور للعسكر، الذين حسب الدستور الجديد يجب ألا يلعبوا أي دور سياسي في البلاد، ومهمتهم محصورة في الدفاع عن الوطن، كما تفعل جيوش الدول المستقرة ديمقراطيا وسياسيا.  تم قصف البرلمان واحتجاز رئيس أركان الجيش وحدث تبادل لإطلاق النار تسبب في قتل وجرح مئات الأشخاص. تحدث أردوغان الذي كان خارج مدينة إسطنبول عبر سكايب وطلب من الشعب أن يحمي ديمقراطيته، فنزلت الملايين إلى الشوارع ولم تمض إلا ساعة أو ساعتان حتى بدأت الأخبار تنتشر معلنة فشل الانقلاب، ووضع المسؤولين عنه في السجن. ثم ظهر أردوغان في مطار إسطنبول قرب الجماهير وألقى بيانا أكد فيه أن الانقلاب فشل وأن مدبريه سينالون عقوبتهم التي يستحقون وأن عودة الاستقرار مسألة ساعات، وأثنى فيه على الشعب الذي حمى ثورته. وأود أن أشارك القراء في بعض الملاحظات المهمة والدروس المستفادة من هذه الحادثة العظيمة بغض النظر أين يقف أي إنسان من شخصية أردوغان:

أولا- من المهم أولا أن يتم الإقرار بأن محاولة الانقلاب كانت جادة وتعبر عن حالة غضب وتذمر واسعين داخل مؤسسة الجيش بحيث استطاعت هذه الحالة أن تضم إلى صفوفها آلاف الجنود والضباط بمن فيهم قادة الجيشين الثاني والثالث وقواعد للطيران ومشاة وبحرية. وإذا لم تتم مراجعة أسباب هذا التمرد الواسع فقد يتكرر بأشكال أخرى. والقيادة التركية مدعوة إلى بحث أسباب التمرد وليس فقط محاكمة المتمردين. 

ثانيا- لقد كشف الكثيرون من العرب وبعض المسؤولين الكبار، خاصة بعض قوى اليسار والتجمعات الطائفية التي بدأت توزع الحلوى وتطلق الألعاب النارية عن رعونة سياسية ويسار طفولي، فقد هللوا وكبروا ورقصوا للانقلاب قبل انتظار النتيجة النهائية للأحداث، وصدقوا أوهامهم بسرعة قبل انتهاء المشهد الدرامي. لقد كشف هؤلاء أنهم ليسوا مع خيارات الشعوب ولا مع الديمقراطية ولا مع نتائج الصندوق، بل ما تفرضه الدبابة والبندقية والعسكر إذا كان ذلك في مصلحة توجهاتهم واصطفافاتهم السياسية أو الطائفية.

ثالثا ـ إن من يؤيد الانقلاب على الشرعية الديمقراطية في تركيا لا يستطيع أن يقنع أحدا أنه ضد انقلاب عبد الفتاح السيسي ضد شرعية محمد مرسي، أو ضد انقلاب عمر البشير ضد شرعية الصادق المهدي أو ضد انقلاب برويز مشرف ضد شرعية نواز الشريف أو ضد انقلاب بينوشيه ضد شرعية سلفادور ألليندي أو ضد انقلاب سيدراس ضد شرعية أرستيد أو ضد انقلاب سنكوح ضد شرعية أحمد تيجان كبا أو ضد محاولة الانقلاب التي قام بها الجنرال بيدرو كارمونا ضد الرئيس المنتخب هوغو شافيس في فنزويلا. الانقلاب هو الانقلاب فإما أن تكون مع شرعية الصندوق وشرعية خيارات الشعب، أو أن يكون الشخص المؤيد للانقلاب هو نفسه مشروع طاغية لو تمكن من السلطة. فالذين رقصوا فرحا لفشل الانقلاب على تشافيز عام 2002 وبكوا بدموع غزيرة على أحد أعظم قادة أمريكا اللاتينية سلفادرو ألليندي عندما أطيح به بانقلاب دموي عام 1973 كيف يفسرون لنا تأييدهم لانقلاب السيسي الدموي كرها في الإخوان المسلمين وسرعة الترحيب بمحاولة الانقلاب في تركيا كرها في شخصية أردوغان، ولا ينتصرون لمبدأ وصول السلطة عن طريق الانتخابات الحرة، التي تعكس إرادة الشعب حقيقة لا مجازا. الانتقائية في المواقف تسيء للمواقف جميعا، والازدواجية في المعايير تلغي أي معيار انتقائي حتى لو كان صحيحا. 

رابعا- إن الجماهير التي تشعر بأن النظام الذي انتخبته يمثلها فعلا لا قولا، وإن الحكومة المنتخبة تمثل خيارات الشعب كلها أو معظمها ستقوم بحماية النظام الذي إرتأته والرئيس الذي انتخبته والسلطة التي تمثلها حتى لو أنها غير راضية تماما عن أدائها. وما سيل الجماهير الذي تدفق على شوارع إسطنبول وأنقرة وبقية أنحاء تركيا طوعا لا كرها ووقف سيلا في وجه الدبابات إلا تجسيد لهذه الحقيقة. 

خامسا- إن أحزاب المعارضة الوطنية التي تحب بلدها وتعتز بنظامها وتصل قبة البرلمان عبر انتخابات حرة، والتي قد تناكف الرئيس المنتخب وحكومته في كل صغيرة وكبيرة ستقف مع تلك الحكومة ومع الرئيس إذا ما تعرضت الديمقراطية للخطر، فإنقاذ النظام الديمقراطي يعلو على كل اعتبارات شخصية ومنافسات ومعارضات سياسية. إنقاذ النظام الديمقراطي هو إنقاذ لسفينة الوطن وليس إنقاذا لربان السفينة فقط، ومن يعادي الربان ويتمنى قتله أو رؤيته غريقا إنما يغلب نزعاته الشخصية وموقفه السياسي على مصلحة الوطن والشعب. هكذا تصرفت جميع الأحزاب التركية التي تؤيد النظام أو تعارضه. وقد توحدت مواقف حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي وحزب الحركة القومية في رفض الانقلاب. وقد أصدرت الأحزاب الثلاثة بيانا مشتركا مع حزب العدالة والتنمية ترفض «الانقلاب العسكري الآثم وتحيي الشعب الذي دافع بدمائه لحماية الديمقراطية». 

سادسا- لم نسمع أن أحد قادة الانقلاب قتل أو عذب أو أعدم خارج نطاق القانون أو تمت تصفيته على وجه السرعة أو تم سحله في الشوارع أو علق على أعواد المشانق أو ذوب في الأسيد. القانون سيأخذ مجراه وسيحاكم الذين دبروا الانقلاب وانتهكوا الدستور وحاولوا الإطاحة بالحكومة المنتخبة، وهم واثقون من أن أحدا منهم لن يعدم فالقانون التركي ألغى عقوبة الإعدام منذ زمن. هكذا تتصرف الدول الراقية التي تكون فيها السيادة للقانون.

سابعا- أظهرت محاولة الانقلاب نفاق المجتمع الدولي، إذ لم تصدر بيانات عديدة لشجب الانقلاب قبل التأكد من فشلة، إلا بيان حلف الناتو ودولة قطر. رسائل الشجب توالت من كل أركان الأرض بعد الإعلان عن فشل الانقلاب من الصومال إلى أوكرانيا ومن الأمين العام للأمم المتحدة إلى وزيرة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي ومن رئيس الولايات المتحدة إلى وزير الخارجية الروسي، ومن الصين إلى المغرب ومن الكويت إلى بريطانيا ومن السعودية إلى إيران. وأكاد أجزم أن عددا من هؤلاء سيصدرون بيانات تشفٍ وفرح لو نجح الانقلاب ويضعون اللوم على شخصية «السلطان العثماني» أردوغان.

ثامنا- لقد لعبت وسائل الإعلام الحر في تركيا دورا رياديا في رفض الانقلاب وفضحه وحشد الجماهير في تطويقه وإسقاطه. قارن ذلك مع الطريقة الهابطة والتافهة التي تصرف بها إعلام الانقلاب في مصر والتي لا تثير إلا الغثاء. فقد صدرت الصحف المصرية بعناوين تعبر عن تمنيات وخيالات أصحابها.

«الأهرام» صدرت يوم السبت بعنوان «الجيش التركي يطيح بأردوغان»، وفي «المصري اليوم»: «الجيش التركي يطيح بأردوغان. الدبابات في الشوارع وبيان القوات – علاقاتنا مع العالم مستمرة». «الوطن»: «الجيش يحكم تركيا ويطيح بأردوغان». أما من يطالع ما قاله بعض الإعلاميين المطلبين الذين اصطفوا إلى جانب إسرائيل في حربها الإجرامية صيف 2014 ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة فلا يستطيع إلا أن يضحك على هذا المستوى من المهنية الهابطة. 

تاسعا- إن فشل هذه المحاولة الانقلابية تثبت أن الشعب التركي ارتقى إلى مستوى المسؤولية في حماية نظامه السياسي الذي اختاره بإرادته الحرة، وأن عهد الانقلابات ولى. لقد قام الجيش التركي بالانقلاب على الحكومة المنتخبة عام 1960 وعام 1971 وعام 1980، ثم قام بنصف انقلاب عام 1997 عندما أطاح برئيس الوزراء المنتخب نجم الدين أربكان وأودعه السجن، ثم جاءت انتخابات 2002 التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بقيادة الثنائي عبد الله غل ورجب طيب أردوغان فبدأ النظام الديمقراطي يتجه نحو الاستقرارا مصحوبا بإنجازات اقتصادية وسياسية عظيمة، رغم بعض المحاولات الانقلابية للجيش فشلت جميعها كان آخرها «عملية خطة القفص عام 2009» من قبل قوات البحرية وتمت محاكمة أكثر من 80 ضابطا كبيرا بمن فيهم الأدميرال المتقاعد أحمد فياض.

عاشرا – إن الإطاحة بحكومة منتخبة جائز لكن بالطرق القانونية المعروفة دوليا التي لا تنتهك الدستور. وأول هذه الطرق الانتخابات المبكرة، وثانيا أن يقررالبرلمان ذلك عندما يرى أن الرئيس غير صالح للحكم أو أنه في حالة انتهاك صارخ للدستور، كما حدث مع الرئيس الأمريكي عام 1974، أو كما حدث مؤخرا مع رئيسة البرازيل ديلما روسيف. وطريقة ثالثة تتضمن خسارة الاستفتاء الشعبي العام كما حدث مع الرئيس الفرنسي ديغول عام 1969 عندما فشل مشروعه في الاستفتاء على اللامركزية، وأخيرا الاستقالة الطوعية نتيجة انخفاض شعبية الرئيس أو إصابته بمرض أو فشل مشروع راهن عليه كما حدث مؤخرا مع ديفيد كاميرون. أما أن يستخدم الجيش لإسقاط حكومة منتخبة فيجب أن يكون مرفوضا، وقد تكون عواقبه وخيمة على مجمل الشعب ومسيرته وخطط التنمية فيه ووضعه إقليميا ودوليا كما حدث في تشيلي 1973 والسودان 1989 والجزائر 1991 وباكستان 1999 ومصر 2013.

وأخيرا فإن رفض انقلاب السيسي ورفض محاولة الانقلاب في تركيا لا يعني على الإطلاق تأييد جماعة الإخوان المسلمين، ولا انتصارا لشخصية أردوغان أو تأييدا لمواقفه. فقد كتبت أكثر من مرة منتقدا حركة الإخوان المسلمين وسياسة أردوغان كان آخرها عند توقيع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، لكنني ختمت المقال بما معناه أن أردوغان مسؤول أمام شعبه لأنه وصل الحكم لا عن طريق الدبابة ولا عن طريق التوريث. إن رفض الانقلاب أو رفض محاولة الانقلاب على أي حكومة منتخبة لا يعني إلا الانتصار للشرعية المنبثقة عن إرادة الشعب الحرة فهو صاحب السيادة وهو كاتب الدساتير وهو من ينتخب قياداته ويوكل لها مهمة تنفيذ خياراته وإرادته وسياساته، وليس من حق الدبابة والبندقية والبسطار إلغاء تلك الإرادة، ومن يقول بغير ذلك فليبق مصطفا إلى نظام الوصول إلى السلطة عن طريق الدبابة أو التوريث. 

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز

عن القدس العربي