• 19 نيسان 2024
  • مقدسيات

 يكتبها أحمد هميت

 

  رغم اختفاء  مظاهر العيد في القدس بسبب الحزن الذي يسود كل فلسطين  جراء ما يجري في غزة من حرب إبادة جماعية ،  ويمكن ان نلمس ذلك على وجوه المقدسين كما قال الحاج محمد عبد الرحمن ٧٦ عام من حارة السعدية "  والله ما في رغبة للاحتفال بعيد الفطر السعيد ، حتى الوجبات التي يجب ان نقوم بها قررنا اختصارنا مثل  غداء العيد مع كل العائلة ، فقلوبنا وعقولنا مع الاهل في غزة .

ورغم ذلك فان للعيد يبقى له رونق خاص بـ القدس ، فبعد  انتهاء صلاة العيد  يحرص كل مقدسي أن يشتري كمية من الكعك المقدسي مع بعض اقراص الفلافل  الكبير سواء كانت محشوة بالبصل والفلفل الحار او سادة  ، ورغم علم المقدسي الخبير بكل أنواع الكعك فهو يتناول الكعك ان لم يكن  طازجا  من احد افران البلدة القديمة التي تستخدم الحطب   ،ولكن في العيد يتم التغاضي عن هذا الشرط من أجل هذا الحفاظ  على  هذا طقس من طقوس العيد ويعلل  نفسه بأنه يمكن  تسخين الكعك  ليكون ليعود مقرمشا طازجا .

 وبعد أن يحصل المقدسي على حاجته من الكعك  يتوجه الجميع الى المقابر لزيارة اهلهم واحبتهم الذين سبقوهم الى الدار الاخرة، حيث يقوم الأهل بتوزيع بعض انواع الحلوى على روح الموتى ورحمة لهم .

في الماضي كانت الحلوى التي ارتبطت بهذه المناسبة هي "الغريبة" على شكل حرف الاس باللغة الانجليزية (s) لدرجة أن هذه الحلوى ذات اللون الأصفر الفاقع الصلبة قليلة السكر ارتبط  في التراث المقدسي بالتربة (المقابر) والموت .

 في عيد الفطر السعيد لهذا العام كانت هذه الظاهرة  قد انتشرت بشكل ملحوظ ، فما أن تعلو درج مقبرة باب الأسباط  حتى تجد من يستقبل بطبق من حلوى البقلاوة الصغيرة  وبجانبه شخص يوزع زجاجات الماء وعلى بعد  منه هناك شاب يوزع الغريبة ، وثالث يوزع الماء ورابع يحمل التمر وخامس يوزع كؤوس المياه البلاستيكية واخر بقلاوة بحجم كبير، وهذا يوزع  كعك العيد وهذه الفتاة توزع المعمول .

 هناك في وسط المقبرة وقف شاب يقول بصوت عالي وكأنه يستجدي المارة من المصلين: 

 هذه عن روح ابي تفضلوا خذوا ما تشاؤون وترحموا على أبي،   وكان يوزع  الكعك المحلاة ( الدوناتس)  لاول مرة يرى الناس هذا الكعك يوزع وكان هذا الشاب بملابسه السوداء يقف عند قبر والده والذي يبدو أنه توفى حديثا، ولهذا فإن العشرات من المارة الخارجين من الأقصى بطريقتهم إلى منازلهم  يقفون ليلتقطوا حبة من الكعك المحلى بالشوكولاته أو الفانيلا، وكأس من الماء ولم ينسوا طبعا أن يترحموا على والد هذا الشاب ويقرؤون الفاتحة ، هذا الشاب كان يدعوا بإصرار ملفت للاعجب ودليل على الألم الذي يعتصره نتيجة فقدانه والده ،  وكأنه يريد كل سكان القدس ان يترحموا على والده ، أنه ابن مرضي  رحمة الله عليه .

 وعن ذلك قال الدكتور علي قليبو أستاذ علم الاجتماع  : 

" تتعدد جوانب الشخصية المقدسية المرتبطة بالفكر الإسلامي   نتبين إحدى جوانبها في العيد في مفهوم "الحسنة" والإحسان" في زيارة المقابر وفي "جبر الخاطر" وزيارة النساء "من "صلة الرحم" و"العيدية".... فورا بعد صلاة العيد كنا نذهب لقراءة الفاتحة على أمواتنا والتي تعتبر حسنة لهم ولنا ولمن يستمع الى تلاوتنا ..... في تلك الأيام بالماضي السعيد ان يجتمع الشحاذين على مداخل الحرم ومقبرة باب الرحمة ومقبرة باب إسباط ينتظرون العيدية عن أرواح الموتى تبدأ زيارات النساء من خالات  وأخوات وجرت العادة ان يتم توزيع العيدية عليهن وكانت مبلغا من النقود. وكنا نقوم بزيارات صباحية  عديدة لمختلف أقاربنا الإناث من العانسات وكانوا يعتبرونهم بنات ولو حتى كانوا بالسبعينات من عمرهم والأرامل والشقيقات وبنات العم والخالات وفي تلك الأيام كانت تعتبر تلك الزيارة جبر خاطر للبنات تعزز قيمة المرأة أمام زوجها وأولادها .اقتصرت الزيارة عل فنجان والبقلاوة او الكعك والمعمول وهي خاتمة سلسلة الزيارات الرمضانية  حيث ان العلاقات الاجتماعية تتكثف في الشهر الفضيل  في عزائم رمضان ثم الوقفة والذبيحة وتوزيع اللحم في اليوم السابق.... ففي رمضان يلتم شمل العائلة ويتناولون الطعام معا يوميا  ثم تعود الحياة الى مجراها الطبيعي ويلتهي كل شخص بأعماله و روتين حياته اليومي. 

 ويضيف د قليبو : " تميز طعام العيد بأنه كان يتمحور حول لحم الخروف وفي طفولتي كانوا يفضلون الصدر المحشي بالارز والحم المفروم الصنوبر واللوز ثم أصبحوا يفضلون رقبات الخروف المحشية نأكلها بسرعة قبل ان يبدا فوج الزوار .... اقتصرت زيارات العيد في المساء على الأقارب من الدرجة الأولى وكانت بمثابة سهرات عائلية مع جدتي وجدي والخالات والأعمام واولاد العم..... 

أتذكر بشوق "خبز العيد" مع حبة البركة واليانسون والبهار   في  تلك الأيام وكانت جدتي يسرى صالح نسيبه ترسلنا مع اخوالي لنشتريه للفطور من مخبز "سعد وسعيد" واسم الخباز عاشور... وكان يدهشني اسمه فليس من الأسماء الشائعة وكان نحيف وفي تلك الأيام كان الفرن و أجير الفران جزء من الحياة بالقدس حيث كان يحمل أجير الفران طرحات الخبز وصواني اللحمة بصينية وحتى الكعك والمعمول .....

في تلك الأيام كانت الحياة بسيطة فلم يكن هناك زينة رمضان وكنا نذهب للحرم في شوارع مظلمة حتى عرف الشارع حيث بيت العائلة بجانب الحرم "باب العتم" رمضان كان شهر الحسنة والإحسان و الصدقة الجارية وعمل الخير

 وبعدها يتفرق الجميع كل بطريقة الى منازلهم بعد ان قاموا بواجبهم الديني في الاقصى والاجتماعي بزيارة من يجب زياره ليستقر كل في منزله يتابع هم المدينة ، وقلوبهم لا زالت معلقة بالاقصى الذي قال عنه الشاب سعد عبد المعطى ٢٤ عاما أنه بات معلق به اكثر من اي عام وانه شعر بحزن كبير بعد انتهاء شهر رمضان وشاهد الاقصى وقد رحل عنه اهله وشعر ان الاقصي الذي يودع أحبته الذين احتضنهم طيلة شهر كامل يقول لهم لا تنسوني فإن القادم اخطر وانا وحيد بدونكم  …. 

 وهكذا انتهت يوميات رمضانية حتى رمضان القادم