• 21 آب 2021
  • مقابلة خاصة

 

 بقلم : محمد تركي الربيعو*

 

قبل سنوات قليلة، عثر مؤرخ العثمانيات فاضل بيات على قسم كبير من الوثائق الجديدة حول واقع التعليم في دمشق وحلب وبيروت وعكا والموصل خلال الفترة الممتدة 1896 و1914، وأصدر سفراً مطولاً حول هذا الموضوع بعنوان "المؤسسات التعليمية في المشرق العربي"، لنتعرف من خلاله على اسماء المدارس في تلك الفترة، واسماء المدرسين والمواد التي درسوها، وشمل الكتاب أيضاً مدارس الإرساليات التبشيرية ومدارس الفتيات. وكشف الكتاب أنّ مناهج المدارس الحكومية في تلك الآونة كانت قد شهدت إصلاحات عديدة جراء القلق من وجود المدارس الأجنبية، وأيضا لأن السياسات الحميدية (السلطان عبد الحميد) قامت آنذاك على فكرة خلق نخبة عثمانية جديدة، أكثر معرفة بلغة العالم وثقافته، وهذا ما نراه فعلاً من خلال المواد التدريسية، إذ نجد اهتماماً واضحاً بتعليم اللغات الأجنبية (من ضمنها الفارسية)، إضافة إلى تعليم الحساب والكيمياء والموسيقى والخط وغيرها من المعارف الدنيوية. كما خصص بيات جزءاً واسعا من كتابه لدراسة واقع المدارس العسكرية، خاصة أنّ هذه المدارس لعبت دوراً في خلق جيل عثماني سيساهم في صياغة سياسات الشرق الأوسط بعيد الحرب العالمية الأولى، كما يرى مايكل برفنس في كتابه "الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث"، أو في أطروحته للدكتوراه حول ثورة 1925 في سوريا، والتي درست تأثير الصداقات، التي تشكلت في المدارس العسكرية بدمشق ومدرسة العشائر في إسطنبول، في خلق مخيال سياسي آخر مع أحداث 1925.

وبالرغم من أهمية الطرح الذي قدمه بيات أو برفنس، لا بد من الإشارة إلى أن كلا الباحثين ركزا في دراساتهما على المدارس الرسمية العثمانية، كما توقفت غالبية المعلومات حول واقع المدارس وتعليمها عند نهاية الحرب العالمية الأولى، دون أن تكون هناك معلومات إضافية عن طبيعة التعليم في مدن سوريا بعد الحرب. ومن بين الاستثناءات القليلة على صعيد رصد واقع التعليم في سوريا، هناك كتابين؛ الأول للراحل ظافر القاسمي عن مكتب عنبر، والثاني للتربوي خالد قوطرش "التعليم في سورية" والذي خصّص القسم الأكبر منه لدراسة المدارس الأجنبية ودورها في نهضة التعليم بمدينة دمشق. لكن في مقابل هذا الجهد، يبدو أنّ هناك مدارس أخرى (أهلية) وليست حكومية لم تلق الاهتمام الكافي من قبل المؤرخين، على الرغم مما قدمته من جهود مهمة على صعيد مدينة مثل دمشق؛ ولعل الشعور بهذه الفجوة هو ما سيدفع بالباحث والتربوي السوري نزار أباظة إلى اعداد كتاب مهم، في موضوعه ووقته، يتعلق بذاكرة المدارس الأهلية في دمشق خلال المئة سنة الأخيرة،ليتح لنا التعرف على عدة جوانب من تاريخ هذه المؤسسات في نشر المعرفة والعلم بين  لدمشقيين، وبالأخص في النصف الأول من القرن العشرين، إضافة إلى دراسة واقع هذه المدارس ومناهجها وطبيعة موادها، والتعرف على دور عدد من علماء وتجار دمشق في هذا الجانب، وأيضا على مستوى الانقسام الاجتماعي داخل المدينة، وكيف أثر أحيانا في ولادة مبادرات تعليمية جديدة.

والجديد في كتاب الأستاذ أباظة، أنه لم يجمع مادته البحثية من المراجع والكتب فحسب، بل نراه وهو في سن متقدمة (76 عام تقريبا) يطوف شوارع دمشق، مستمتعا، وعاتباً، ومهموماً في الآن ذاته، عله يعثر على أوراق هنا أو هناك حول بدايات هذه المدرسة أو التي تشكل جزءاً من ذاكرة المدينة، كما أنه سيستعين أحيانا بذكريات من عملوا أو درسوا في هذه المدارس، إضافة إلى الاستعانة بذاكرته عندما كان طالباً في دار الحكمة بدمشق، ولاحقاً أستاذاً في عدد من هذه المدارس، لنرى في بعض الصفحات مزجاً غنياً بين السيرة الذاتية والتاريخ العام في قراءة تاريخ التعليم بالمدينة. كما لم يقف المؤلف عند نمط معين من المدارس، بل شمل في دراسته أيضا المدارس الأجنبية وكذلك المعاهد الدينية، التي لعبت دوراً واسعاً في تعليم الدمشقيين،  إلى يومنا هذا.

مدارس منسية:

بعد التطرق لحياة عالم الكتاتيب الدمشقي في نهاية القرن التاسع عشر، يذهب بنا الاستاذ أباظة للتعرف على أوائل المدارس الابتدائية التي أسسها أفراد من مدينة دمشق، مثل المدرسة السفرجلانية (والتي لا نعثر عليها مثلا في كتاب بيات) وقد أنشأها الشيخ عيد السفرجلاني في عام 1870، ومع تواضعها وبساطتها كانت نقلة مهمة عن الكتاتيب المعروفة، وكان مقرها بداية في المدرسة السليمانية قبل أن تنتقل إلى مخزن واسع قرب باب الحديد بالمناخلية، ثم انتقلت إلى بناء المدرسة الجقمقية في الكلاسة شمال الجامع الأموي، بعدها عمل الشيخ عيد على توسيع بناء هذه المدرسة، فانتقلت في عام 1919 إلى غرب المدرسة النورية وضمت نحو 250 تلميذاً. وفيما يتعلق بمناهج هذه المدرسة، كانت مواد القسم الابتدائي تتكون من العلوم الدينية والعلوم العربية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والزراعة وحسن الخط والموسيقى (ترتيل القطع الدينية) والرياضة واللغة الفرنسية والتي تزداد ساعاتها كلما تقدم التلميذ في الدراسة. ومن الأمور اللافتة للنظر فيما يتعلق بموضوع اللغة، أننا نعثر في الجدول الذي أعده الباحث حول توزيع الحصص الدراسية على الأسبوع أنّ طلاب الصف السادس مثلاً كانوا  يتلقون ستة دروس فرنسية في الأسبوع، مما يشير إلى أنّ موضوع الاهتمام باللغة الأجنبية كان حاضرا وبقوة في تلك الفترة مقارنة مثلاً بوضع تعليم اللغات الأجنبية في سوريا بعيد الخمسينيات. ومن المدارس الابتدائية الأخرى نعثر على مدرسة "العادلية الصغرى" والتي أسسها الشيخ أحمد دهمان عام 1899، والمدرسة الريحانية 1906 وكان من مؤسسيها الشيخ محمد مبارك والشيخ حسن الاسطواني، وأيضا على المدرسة السعيدية العلمية لمؤسسها الشيخ محمد سعيد الشلاح، والتي بناها خلف جامع السادات، ومن القصص الطريفة عن أساليب التعليم ومراقبة الطلاب فيها، أنّ مديرها عين للطرقات ما سمي عرفاء الأزقة، وهم تلاميذ ينتشرون في حارات حول المدرسة لمراقبة الصغار وتسجيل أسماء من يؤذي المارة أو يطرق أبواب الجيران أو من يتصرف على نحو غير لائق، وقد بقيت هذه المدرسة قائمة حتى عام 1965. ويُلاحظ ازدياد حضور هذه المدارس ذات الخلفية الدينية بعيد فترة الحرب العالمية الأولى ودخول الفرنسيين لدمشق، كما نرى أنّ هذه الفترة عرفت بانتشار أفكار الإصلاح الإسلامي، ولذلك نجد أنّ مؤسسي هذه المدارس لم يندفعوا إلى الانغلاق، وإنما حاولوا التركيز على تعليم اللغة الفرنسية، وإنشاء مدراس للفتيات لنيل الشهادة الرسمية (السرتفيكا) مثل مدرسة روضة الحياء التي تأسست في عام 1927، وأدارتها السيدة سامية ترجمان وبعدها باهية الطباع، ولاحقاً الشيخ عبد الكريم الرفاعي. وأتاحت لنا المعلومات المقدمة حول هذه المدرسة وغيرها من مدارس الفتيات، التعرّف على أسماء نسوية مجهولة تقريباً، أو معروفة ضمن أوساط ضيقة، وعلى أدوارهن في الحياة التعليمية والعامة في المدينة.

وفيما يتعلق بالمدراس الثانوية، نكتشف مع الأستاذ أباظة اسماء عدد من المدارس الأهلية مثل المدرسة التجارية العلمية (1910) التي أنشأها عدد من تجار المدينة وتخرج منها عدد من الطلاب مثل خالد العظم وعلي الطنطاوي. وهناك المدرسة الكاملية الهاشمية، التي أسسها الشيخ كامل القصاب عام 1905، وقد اشتهرت بتمثيل المسرحيات بالفصحى مثل مسرحية "الحق والباطل" التي احتوت  أفكارا نقدية للسلطة، مما أثار استياء والي سورية آنذاك عارف المارديني. كما نعثر على مدرسة "الكلية العلمية الوطنية" والتي دعا إلى تأسيسها الشيخ أبو الخير الطباع،  وأدارها في البداية الدكتور أحمد منيف العائدي، وضمت بعد عام 1948 اسماء لامعة على صعيد التدريس مثل انطون مقدسي (الفلسفة والمنطق) وجميل صليبا والكسندرو دور زيلونوي (من أصول روسية) لتدريس الفرنسية وجميل قربي (الاجتماعيات) وزكي الأرسوزي وخليل مردم بك، كما عرفت المدرسة بتركيزها على تعليم اللغات، ويذكر نزار قباني (أحد طلابها) أنه قرأ، في هذا المناخ، راسين وموليير وهوغو وغيرهم من كبار الشعراء الفرنسيين. ومن بين المدارس الثانوية التي تشكلت في فترة النصف الأول من القرن العشرين، المدرسة المحسنية، والتي ما تزال قائمة ليومنا هذا، وقد أسسها السيد محسن الأمين القادم من النجف في عام 1901.

 ومن ناحية مدارس الفتيات الثانوية الأهلية، نعثر على تجربة فريدة تمثلت في "معهد دوحة الأدب" التي تأسست عام 1931 في شارع أبو رمانة، بمبادرة من السيدات (عادلة بيهم، ووداد قوتلي، وخيرية رضا سعيد، ورفيقة العظم البخاري، وفرلان مردن بك، وداد الحجار)، وهي اسماء نسوية لا نعرف عنها سوى القليل، وقد قام المعهد بإنشاء مسرح بإشراف الفنان عبد الوهاب أبو السعود ، كما حرص على تعليم الطالبات العزف على البيانو والاستماع للسيمفونيات العالمية، وفي عام 1947 أخذ المعهد باقتراح البارودي باستقدام عمر البطش لتدريبهن على رقصة السماح والإنشاد، ليظهرن لاحقاً في إحدى الحفلات، مما أثار حفيظة عدد من علماء المدينة مثل علي الطنطاوي الذي ذكر في خطبته للجمعة "إنّ هذه الحفلة منكر، وإنها حرام، وإنها تنافي الإسلام، وإنّ كل من حضرها ..ديوث" ، ورغم تأييد البعض له، لكن الطنطاوي سيحاكم على هذا الكلام أمام مجلس القضاء الأعلى بحسم عشر راتبه لشهرين.

التعليم بعد عام 1946

يلاحظ المؤلف تراجع دور المدارس الأهلية بعيد الخمسينيات، بيد أنّ الفرصة ستتاح لهذه المدارس لمعاودة نشاطها مرة أخرى مع فترة الثمانينيات وانهيار الواقع التعليمي ورغبة الطلاب في الحصول على درجات عالية، ويتطرق المؤلف لعدد منها مثل ثانوية دار الحكمة، والتي درس فيها مؤلف الكتاب، فقدّم معلومات أدق عن واقع التعليم فيها وحياة الطلاب وعلاقتهم بالأساتذة. ومن اللقطات الفريدة التي يذكرها؛ علاقة الطلاب باللغة الأجنبية، إذ يذكر الأستاذ أباظة أنّ جيله كان لا يقدّر دروس اللغة بالشكل الجيد، وأنّ درس اللغة كان في زمنه مثل "الحمام المقطوع المياه" في إشارة إلى الفوضى التي كانت تتخلله، وربما هذا التغير على صعيد علاقة النخب باللغة يعكس الواقع الايديولوجي الذي عاشته سوريا ما بعد الكولونيالية، مقارنة بفترة الإصلاح الإسلامي. ومن بين الثانويات الأهلية التي نتعرف عليها أيضاً ثانوية دار الفكر في حي القنوات، والتي أسست على يد (الاستاذ محمد عدنان سالم، محمد الزعبي، وغيرهم) قبل أن تغلق ويفتتح مؤسسوها دار الفكر المعروفة بدمشق. ومن بين الثانويات المهمة في هذه الفترة وليومنا هذا، ثانوية السعادة، التي حظيت بشهرة واسعة في دمشق في العقود الثلاثة الأخيرة، والجميل في كتاب الأستاذ أباظة، أنه يوسع معرفتنا بتاريخ هذه المدرسة؛ إذ بدأ التفكير بتأسيسها، كما يرى الباحث، بعدما ضرب الفرنسيون جامع تنكز مقر الجمعية الغراء في حوادث 29 أيار 1945، فقررت الجمعية انشاء ثانوية كونية، وقد افتتحت الثانوية في العام الدراسة 1945/1946 في مبنى مدرسة سعادة الابناء شمال الجامع الأموي، وفي الستينيات تنازل الشيخ عبد الغني الدقر عن الترخيص إلى الاستاذ فاروق الطباع، لتنتقل ملكيتها لاحقاً إلى الاستاذ هشام الناشف، الذي عرف بين الطلاب بجديته وحزمه، فكان يحضر إلى الدوام قبل الجميع، وكان عصبي المزاج، تبدو الجدية على ملامحه طوال الوقت، طيب الخلق، وصاحب نكتة وظرافة لا تظهر إلا فيما ندر. ومما يمكن قوله عن حياة التعليم في هذه الثانوية (كما عايشها كاتب المقال) في بدايات القرن الحالي، أنه قلما كان يخلو الدرس من توجيه رسائل أخلاقية ناعمة من الأساتذة لطلبتهم، ومن نقد مبطن للوضع العام في البلاد، حتى أنّ الحصة كانت تنتهي أحياناً، دون أن يشعر الطلبة بذلك لحلاوة ما كان يقال أثنائها من كلام حول ضرورة الحفاظ على وجه المدينة، ورفض الفساد، وضرورة التغيير وغيرها من الأفكار التي تدعو للإصلاح الدنيوي، ولعل هذا ما جعل من بعض اساتذتها مثالاً للنزاهة والمعرفة والأخلاق، كما كان عليه الاستاذ الراحل تيسير العيتي.

معاهد التعليم والأحياء:

خصص الاستاذ أباظة قسما للحديث عن المعاهد الدينية، ومما يلاحظ في سرده أن لكل معهد خلفية مرتبطة بالحي (معهد التوجيه الإسلامي/حسن حبنكة/الميدان)، جمعية دار الحديث التي أسسها عدد من تجار دمشق (قسم كبير منهم من حي المهاجرين) ومعهد جمعية الفتح الإسلامي (أسسها الشيخ صالح الفرفور 1956) واختار القيمرية في ممر باب السلام زقاق الشطي مقراً لها في البداية، ولاحقاً معهد أبو النور 1975 في حي ركن الدين، ولذلك يبدو أحياناً هذا التوزع الجغرافي وكأنه امتداد بعض الشيء للانقسام الذي عرفته المدينة بين حي الميدان والشاغور، والذي حكم مدينة دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وفق ما درسته ليندا شيلشر، ولعله بقي يحكم علاقة اللاعبين الدينيين ببعضهم داخل المدينة حتى الخمسينيات قبل أن يفقد هؤلاء اللاعبون جزءاً من نفوذهم لصالح لاعبين جدد (كفتارو). كما نرى أنّ دور هذه المعاهد لن يقتصر على الجانب المحلي، بل سيشمل أيضاً طلاباً من بلدان عديدة (افريقيا وآسيا و الولايات المتحدة الأميركية)، مما أتاح لهذه المعاهد تأسيس شبكات عابرة في وقت مبكر. إذ تقول إحدى الروايات أنّ الهدف من زيارة بطل الملاكمة الأميركي محمد علي كلاي إلى سوريا عام 1992، لم يكن رياضيا أو لموقف سياسي، بل كانت الرحلة ذات خلفية دينية، فقد أسلم كلاي على يد أحد تلاميذ كفتارو في الولايات المتحدة الأميركية، ولذلك أراد السفر إلى موطن الشيخ الأكبر (كفتارو). ولذلك تبدو لنا حكاية المعاهد والمدارس الثانوية الدمشقية لا تعبر عن واقع تعليمي عرفه الدمشقيون فحسب، بل جزءا من ذاكرة المدينة الاجتماعي والديني والأفكار الإصلاحية في المئة سنة الأخيرة. ويمكن أن نسجل ملاحظة أخيرة تتعلق بصورة غلاف الكتاب، فقد اختار المصمم صورا لطلاب في مدرسة أوروبية، ولا نعرف ما السبب في ذلك، على الرغم من توفر عشرات الصور عن بعض المدارس القديمة، لكن ربما ما يشفع لهذا الاخراج الفني المسلوق، هي رحلة الأستاذ أباظة الممتعة والغنية في ذاكرة مدينة دمشق وشيوخها ومدارسها الأهلية.

  *القدس العربي