• 7 تشرين أول 2021
  • مقابلة خاصة

 

بقلم: القاضي المقدسي فـــوّاز إبراهيــم نـــزار عطيـــّة

 

مما لا ريب فيه يعتبر قانون "أملاك الغائبين" من أكثر القوانين الإسرائيلية الجائرة بحق الفلسطينيين، الذي يعود تاريخه إلى عام 1950 حين أقره الكنيست "البرلمان الإسرائيلي" بعد قيام دولة إسرائيل بعامين، وبموجبه تم ‏الإستيلاء على الأراضي والممتلكات التي تعود للفلسطينيين الذين هُجّروا منها، نتيجة تسليم حكومة مملكة بريطانيا الارضي التي احتلتها اي فلسطين ضمن ما يسمى"بالانتداب" في عهد عصبة الامم المتحدة، وذلك في سبيل إنهاء الحكم الإسلامي للدولة العثمانية والتي امتد نفوذها بين الشرق والغرب، ولإنهاء الفكر العثماني الذي كان بين مدٍ وجزرٍ طيلة أربعة قرون، فنهاية حقبة زمنية بحلوها ومرها جاء لتأسيس نظام عالم جديد، من أجل ترتيب أوراق الشرق العربي بالذات، من خلال إعادة تنظيم احتلال فلسطين للأبد، بزرع جسم محمول ومحاط بالحماية الدائمة من الغرب، لبسط السيطرة على المقدرات الطبيعية  في أراضي الأمة العربية، وإنشاء ممالك وجمهوريات متناحرة، لنهب الخيرات...

 وأُحكمت الخطط وتم تنفيذها من الغرب، ومازال الاحتلال الإسرائيلي  الجاثم على صدرو الفلسطينين وفي العمق العربي محل رعاية وإدارة غربية محكم السيطرة عليه، ومازال الفلسطيني يصارع عصبة الغرب منذ عام 1948.

 ومن الطبيعي أن يُسمح للجسم الجديد بأن يقوم بدور الدولة من جميع الأوجه، في سبيل تحقيق مصالح الفئة التي يحكمها، سواء بالتطوير أو التنمية في شتى المجالات، ومن أجل تحقيق ذلك لا بد لهذا الجسم أن يكون له قواعد تحت ستار القانون، ولا بد من تشريع يمنح دولة الاحتلال  الوسائل والسبل لبسط السيادة والسيطرة بالكامل، لإطلاق صلاحيات واسعة وكاملة للتصرف في الأراض والممتلكات التي تركها أصحابها العرب قهرا وقسرا.

وتأكيدا على ذلك فإن اساس فكرة قانون الغائبين قائم على تعريف من هُجّر أو نزح أو ترك حدود ما يسمى دولة إسرائيل حتى تشرين ثاني 1947بأنه غائب، وتعتبر كل أملاكه ( الأراضي، البيوت وحسابات البنوك، والأموال المنقولة من دواب ومصاغ وغيرها) "أملاك غائبين" تنقل ملكيتها لدولة إسرائيل، ويديرها وصي من قبل الدولة "حارس أملاك الغائبين" ، الذي هو أساس ومعيار قيام دولة إسرائيل من أجل إحكام السيطرة على أملاك اللاجئين الفلسطينيين، وكذلك أملاك الوقف الإسلامي والمسيحي في الدولة المحتلة، ومن أجل منع عودة أي من المهجرين العرب إلى الأراضي أو الممتلكات الّتي تركوها  قبيل حرب الاحتلال أو أثناءها أو بعدها.

وكما يقال بالمثل الشعبي ” أول الغيث قطرة“  فقد تم تعين دافيد شابرير في 21/7/1948، ليكون القيم العام  الأول على أملاك الغائبين، بحيث توجه المذكور بتاريخ 23/5/1949 إلى وزير المالية إليعازر كابلان، طالبا منه توسيع صلاحياته، ليصبح مالكا للعقارات بدلا من محافظا عليها ليمنع الفلسطينيين المهجرين مالكي الأراضي والأملاك من العودة إليها لاحقا.

ومن هذا المنطلق، وبغض النظر عن التعريفات التي وردت في القانون حول الغائب والمفقود، وبغض النظر كذلك عن استعمال مصطلح غير قانوني "غائب حاضر" المثير للسخرية والضحك، الذي أطلق على سكان المثلث والجليل وبعض المناطق المحاذية وكذلك على سكان السهل الساحلي ضمن ما يعرف بسكان عرب فلسطين 1948. 

وجدير بذكره أنه بعد سن القانون ودخوله إلى حيز التنفيذ، اُستعمل كثيرا ضد العرب الذين هُجروا أو نزحوا وتركوا أملاكهم خلفهم، بحيث أُعطيت أملاك العرب للقادمين اليهود الجدد، وجزء منها استعمل كمرافق عامة للجمهور، أما الجزء الأكبر فقد حُول إلى الصندوق القومي الإسرائيلي "كيرن كييمت"، الذي ساهم الأخير بشكل فعال ولافت للنظر في إقامة المستوطنات غير الشرعية.

 وبالتالي وعلى ما أنبأ عنه واقع احتلال باقي أراضي فلسطين التاريخية عام 1967، أصبحت القدس والضفة الغربية تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، وتم تطبيق قانون الغائبين على الفور، بحيث اعتبر كافة العقارات في شرقي القدس، التي يمتلكها سكان شرقي القدس والضفة الغربية والأراضي العربية على أنها أملاكا للغائبين.

 وبعد سنة ونيف من احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية، وعلى وجه الدقة في تشرين الثاني من عام 1968 ، أصدر المستشار القضائي لحكومة إسرائيل في حينه يدعى" مئير شمغار"، تعليمات تمنع تنفيذ القانون على الأملاك الموجودة في شرقي القدس، التي يمتلكها سكان الضفة الغربية، لأن الأملاك لم تعرف كأملاك للغائبين قبل احتلال شرقي القدس، ولم تكن لتعرف كأملاك غائبين لو بقيت منطقة شرقي القدس جزءا من مناطق الضفة الغربية، الامر الذي أُحدثت تلك التعليمات تعديلا في البند الثالث من قانون ترتيب القانون والإدارة عام 1970، حيث تقرر عدم تطبيق  قانون أملاك الغائبين على أملاك السكان الذين سكنوا في شرقي القدس عند احتلال القدس، ولم يتطرق القانون إلى أملاك سكان الضفة الغربية. 

وفي شهر 12 من عام 77 من القرن الماضي، أصدر وزير العدل الإسرائيلي شموئيل تمير ووزير الزراعة أرئيل شارون بروتوكولا جديدا، مكن سكان الضفة الغربية الذين يمتلكون أملاكا في شرقي القدس، لأن يتوجهوا إلى القيم بأملاك الغائبين، وأن يطلبوا منه استرداد أملاكهم وأن يستعملوها، لكن هذا البروتوكول تم تعليق العمل بموجبه  إلى أن أعيد تعريف سكان الضفة الغربية، بحيث تم تحديد تعريف جديد للأشخاص الذين يملكون عقارات وأملاك في شرقي القدس على أنهم "غائبين"، وشملهم قانون أملاك الغائبين مرة أخرى بصبغة قضائية من خلال القرار الذي صدر عن المحكمة العليا الإسرائيلية بصفتها الإدارية برئاسة  مريم بن بوريت" وعضوية كل من أهرون باراك و أبرهام حليمة.

لذلك تم تتويج العمل بقانون الغائبين من خلال مظلة القضاء، إلى أن تم تشكيل لجنة كلوغمان عام 1992، من أجل تقصي الحقائق حول موضوع البناء في القدس الشرقية، نتيجة الجدل الجماهيري بسبب النهج الحكومي في القدس الشرقية فيما يتعلق بتطبيق قانون أملاك الغائبين فيها.

ووجهت اللجنة نقدا لنهج الحكومة الإسرائيلية، واشارت إلى أمور قانونية أدت إلى فضح القيم العام "حارس أملاك الغائبين" نتيجة استيلائه على أملاك العرب وتحويلها إلى جمعيات يمينية في القدس الشرقية، لذلك أوصى المستشار القضائي للحكومة يوسف حريش، بضرورة التوقف عن تطبيق هذا القانون، وتبنى رئيس الحكومة يتسحاق رابين هذه التوصية، إلا أن الحكومة عدلت عن موقفها فيما بعد. 

 ومن ثم أعيد الجدل حول قانون الغائبين فيما يسمى بالقدس الشرقية، من حيث التطبيق على أرض الواقع بين الأعوام 2004-2005، منذ بدايات إقامة جدار الفصل العنصري عام 2002، نتيجة تقديم أصحاب الأراضي في منطقتي بيت لحم وبيت جالا، دعوى عديدة للمحكمة العليا الإسرائيلية بصفتها محكمة إدارية، من أجل أن يتم تأمين طريق آمن لهم للوصول إلى حقول الزيتون التي يملكونها في القدس، والتي تم زرعها من قبلهم ومن اجدادهم على مدار سنوات طويلة جيلا بعد جيل، و بالرغم من أن قرار المحكمة العليا الإسرائيلية ألزام الجيش الإسرائيلي، بمنح السكان تصاريح الخاصة من أجل الوصول إلى أراضيهم، إلا أنه تم مخالفة قرار المحكمة ولم يتم تنفيذه، بحيث اعتبرت السلطات أن أصحاب الأراضي غير مالكين لتلك الأراضي، وتم تحويلها إلى القيم العام على املاك الغائبين وفقا لقانون أملاك الغائبين لعام 1950. 

بناء على ذلك، أرسل المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية يدعى "ميني مزور" إلى وزير المالية الإسرائيلي في حينه بنيامين نتنياهو، رسالة شديدة اللهجة بتاريخ 1/2/2005، وطالبه بضرورة التوقف الفوري عن تطبيق قانون أملاك الغائبين على أملاك سكان الضفة الغربية في القدس الشرقية وفق النص المتاح  التالي :" يتعين التوضيح أن هذا القرار لا يمكن له أن يمر، إذ ليس من صلاحية اللجنة الوزارية لشؤون القدس منح تفسير قضائي لحدود سلطة القيم على أملاك الغائبين، وليس من مهامها الانشغال بوضع سياسة بشأن السلطات الممنوحة بموجب قانون أملاك الغائبين....أطالبك التوقف الفوري عن استخدام قانون أملاك الغائبين بخصوص أملاك في شرق القدس...." 

وبناء على تلك الرسالة، عقد نتنياهو مؤتمرا صحفيا غير أخلاقي وغير قانوني من وجهة نظري، ردا على المستشار القضائي وصرح فيه :" أن غالبية الشعب الإسرائيلي وحكومته اتخذوا قرارا بأن القدس تحت السيادة الإسرائيلية، كيافا والرملة وعكا وبئر السبع وحتى ايلات وكريات شمونه....، وعلى هذا الأساس تصرفت حكومات إسرائيل باستثناء بعض الحكومات كحكومة باراك ورابين... "، وأضاف نتنياهو بأن حكومة شارون أعادت التعامل مع القدس وفق ذلك القرار، الذي جاء بدوافع صهيونية سيادية، تستند إلى فكرة ان القدس وحدة واحدة.....

وعليه فإن التحليل البسيط والسليم لتصرف نتنياهو في حينه، شأنه شأن باقي الحكام في الحكومة ومازالوا يعتنقون الفكر الأيدولوجية الصهيوني المتغلغل في أذهانهم، بأن قانون أملاك الغائبين ركيزة من ركائز الصهيونية الاستعمارية ويجب التعامل معه لضمان البقاء والسيطرة.

 وما بين المد والجزر بين الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل حول التمسك بجذور ذلك القانون العنصري، تم إعادة عرض القانون عام 2006 على المحكمة العليا الإسرائيلية، التي قررت اعتبار أن القانون غير قائم على مناطق شرقي القدس لعدم تلائمه مع الثورة القانونية، الّتي انتقدت الكثير من سياسات القوانين في "إسرائيل".

ورغم ذلك، اعتبر بعض الحقوقيين أنه بموجب ذلك القرار أصبح تطبيق القانون بصورة أخف، مما كانت عليه الأوضاع قبل عام 2006، لكن دون إحصائيات رسمية لعدد القضايا المنظورة أمام المحاكم الإسرائيلية، التي تهدف إدارة المحاكم الإسرائيلية وبالتبعية مع الحكومة، التكتم على الاحصائيات الدقيقة، حتى لا تتأثر العلاقات الخارجية الإسرائيلية وتصطدم مع واقع حقوق الانسان. 

 ثم أعيد النظر في مجال تطبيق قانون الغائبين عام 2013، نتيجة تقديم المستشار القانوني لحكومة إسرائيل المدعو" يهودا فاينشطاين" وجهة نظره المتمثلة في السماح بتطبيق قانون املاك الغائبين في القدس، مع ضرورة وجود بعض البنود التي يجب توفرها، بهدف تحرير العقار من يد القيم على املاك الغائبين، واعادته لأصحابه، بأن يكون صاحب الملك نظيفا أمنيا على سبيل المثال، الأمر الذي أضيف على القانون طابع عقابي بالرغم من أنه عنصري.

وبناء على المتناقضات والتباين حول تطبيق القانون سالف الذكر، وفي ظل تعاقب الحكومات الإسرائيلية التي اتخذت معظمها القانون أداة حرب وأداة بقاء في المنصب سواء لتشكيل حكومة أو للتمتع بعضويتها، وبين التطبيقات القضائية التي كان بعضها ضد القانون، وبين مؤيد ومعارض له من المستشارين القانونين والقضائيين في الحكومات المختلفة لإسرائيل، مازال خطر تطبيقه قائم في ظل إعلان التسوية في مناطق القدس العربية المحتلة عام 1967، الذي أعلن عنه قبل سنتين.

ومن هذا المنطلق، اعتقد من الأهمية بمكان استغلال جميع تلك التناقضات والتباين في مواقف حكومات إسرائيل ومستشاريهم، في مختلف المحافل الدولية والإقليمية، بما في ذلك الأقطار العربية التي فتحت أذرعها للجانب المحتل بفتح السفارات في بعض العواصم العربية، بما لا يقل أهمية من استغلال ذلك في أروقة المحاكم الإسرائيلية التي تتخذ من قرارات المحكمة العليا مبادئ وسوابق قضائية تعمل بها المحاكم الدنيا.

ومن هذا المنطلق على الجانب الدبلوماسي الفلسطيني، أن ينشط في أروقة الدبلوماسية العالمية، لبيان خطورة وعنصرية قانون مازال محل تطبيق منذ 72 عاما، كما وأنه دون عقد ورشات عمل قانونية من المتخصصين أصحاب الكفاءة والدراية العميقة في مجال قوانين الأراضي وبالتوازي مع قانون الغائبين، لا يمكن أن نصل لنتيجة موضوعية وعقلانية، فلا يملك لأي مسؤول أن يحدد مسار التسوية في أراضي القدس العربية التي احتلت عام 1967، دون وجود جدوى ودراسات قانونية تأخذ بعين الاعتبار جميع الوقائع التي تم سردها أعلاه، كما ولا يملك لأي مسؤول المجازفة بمنع أصحاب العقارات من التسجيل في الموقع الرسمي بحكم الأمر الواقع للاحتلال، ليصار إلى تسجيلها بإسم ما يسمى أراضي دولة اسرائيل، نتيجة العزوف عن التوجه بتقديم الادعاء القانوني.

وعليه، للخروج من أزمة الرأي والرأي المخالف، لا بد من دراسة جميع الجوانب القانونية من خلال لجنة قانونية متخصصة، لتوجيه أصحاب الحقوق وبما يخدم عدالة القضية الفلسطينية وقدسية القدس الشريف، وبما يضمن تسجيل حقوق كل صاحب حق في تلك الأراضي سواء أكان غائبا أم مفقودا.