- 28 آب 2024
- مقابلة خاصة
القدس - أخبار البلد - كتب المحرر الثقافي
تبدأ جريدة " أخبار البلد" المقدسية بإعادة نشر يوميات الروائي والأديب والكاتب والناقد " محمود شقير" صاحب البصمة الواضحة في الأدب عامة وفن القصة القصيرة بشكل خاص والذي كتب عن القدس بطريقته المميزة، فكانت المدينة التي عاش واحب وعاد لها، ويقضي أيامه في أحضانها كاتبا ناقدا حاضرا اجتماعيا وثقافيا، لا يفكر بمغادرتها ولو لفترة قصيرة فهو لا يطيق البعد عن معشوقته القدس بعد أن اجتمع بها.
انه العشق الذي لا يعرفه إلا أهل القدس فقط . .
من يوميات محمود شقير عام 1996 :
صباح هذا اليوم السادس عشر من نيسان 1996 أبدأ في تدوين يومياتي وبعض جوانب من سيرتي ورحلاتي بعد شهر من عيد ميلادي الخامس والخمسين، العيد الذي لا أحتفل به كعادتي؛ وذلك للتخفيف على نفسي وعلى الآخرين، فالمناسبات أكثر من الهم على القلب في هذه البلاد.
اكتفيت بالجلوس وحيداً بعض الوقت.
استعرضت رحلة حياتي وما كابدته من أحزان، وما عشته من لحظات فرح ليست كثيرة.
أنا الآن مقيم في القدس بعد عودتي إليها منذ ثلاث سنوات, عدت إلى القدس بعد ثماني عشرة سنة قضيتها في المنفى، في بيروت وبراغ وعمان, بعد قليل، أواصل كتابة قصة طويلة للفتيات والفتيان بدأت كتابتها منذ أسابيع.
كانت الكتب هي خير صديق لي. تركت مكتبة في بيتي قبل أن تعتقلني سلطات الاحتلال الإسرائيلي للمرة الثانية في العام 1974 ؛ وحين عدت من المنفى كانت أغلب كتب المكتبة قد غادرت أمكنتها.
وتركت مكتبة صغيرة نسبيًّا في بيروت، بالنظر إلى قصر المدة التي قضيتها هناك، في شقة في بناية تقع خلف مبنى جامعة بيروت العربية، حين غادرت بيروت إلى عمان.
وحين أقمت في براغ ثلاث سنوات تجمعت لدي كتب غير قليلة تركتها في مكانها في تلك الشقة في الطابق الرابع من بناية واقعة في حي واقع في الطرف القصي من شمال مدينة براغ.
وحين غادرت عمان إلى براغ، ثم حين عدت إلى عمان وغادرتها في العام 1993 عائدًا إلى القدس بقيت كتب مكتبتي في عمان وتبعثر منها كثير من الكتب، وأنا أتعذب لذلك في كل مرة يفرق الزمان بيني وبين كتبي.
وكنت انتهيت من قراءة "الأربعينية" للمرة الثانية. الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو يكسر قواعد الكتابة الروائية المعروفة، ويؤسس لنفسه تقنيات فنية خاصة. ثمة استفادة من التصوف الإسلامي في كتابه.
وكان يتعين علي أن أكون في غزة لحضور الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني، لكنني لم أذهب. بلغت الحزب باختيار شخص آخر من قيادة الحزب بدلاً مني، لأنني غير مقتنع بعضوية هذا المجلس الذي شاركت فيه منذ العام 1987 ، وحضرت الدورات الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين التي انعقدت جميعها في الجزائر، ولم أشعر بأن لي والكثيرين غيري أي دور يذكر في هذا المجلس؛ فلماذا أحتفظ بعضويته؟!
هذا الصباح اتصلت موظفة في وزارة الداخلية الإسرائيلية تسأل عني في البيت، وتطلب مني إحضار وثائق تثبت أنني أقيم في القدس من أجل الحصول على وثيقة السفر.
وكنت انتهيت من قراءة مذكرات خليل السكاكيني "كذا أنا يا دنيا" وهي التي أوحت لي بالشروع في كتابة هذه اليوميات.
أشعر الآن بالحزن وأنا أقرأ السطور الأخيرة في الكتاب على لسان ابنته هالة، وهي تشير إلى وفاته بعد ثلاثة أشهر من وفاة ابنه سري الذي مات في عز الشباب، ما أورث والده حزناً مقيماً، فلم يغادره حتى مات.
الآن، وقد انتهيت من قراءة المذكرات التي لمست من خلالها سعة أفق السكاكيني، ورجاحة عقله، وانحيازه إلى تيار التنويريين الفلسطينيين والعرب، فإنني أرى ضرورة كتابة سيناريو تلفزيوني أو سيناريو فيلم وثائقي عنه.
في المساء، شاهدت على شاشة التلفاز فيلماً سخيفاً اسمه "قط الصحراء" ظهر فيه الممثل أحمد رمزي بعد أن تساقط شعر رأسه تماماً. حينما كنت طالباً، قبل حوالي أربعين سنة، كنت متحمساً لتمثيل أحمد رمزي. أرسلت له رسالة بالبريد، وبعد أسابيع استلمت منه رسالة جوابية. كدت أطير من الفرح.
وأنا طوال هذا اليوم في البيت؛ قرأت سيناريو فيلم "المومياء" لشادي عبد السلام، كما قرأت مقابلتين أجريتا معه يتحدث فيهما عن فنه السينمائي.
أنهيت كتابة القصة الطويلة للفتيات والفتيان "قالت مريم.. قال الفتى" وسوف أعود إليها في الأيام القليلة المقبلة لتنقيحها وإعدادها للطباعة.
في ساعات المساء، صعد خالد إلى سطح البيت، وراح يشوي اللحم على نار الفحم. دعاني لتناول طعام العشاء معه. جلسنا على السطح.
كان الحفيد محمود يشاركنا العشاء. محمود في الرابعة من العمر وهو حتى الآن لا ينطق إلا القليل جداً من المفردات.
الطقس حار رغم أننا ما زلنا في عز الربيع، وبيوت جبل المكبر مشرعة النوافذ والأبواب، تندلع منها الأضواء.
صباح الثلاثاء 30 / 4 / 1996 تذكرت أنني في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، عدت إلى الوطن بعد غياب دام ثماني عشرة سنة. أبعدتني سلطات الاحتلال الإسرائيلي من الوطن بتاريخ 28 / 2 / 1975 بعد قضاء عشرة أشهر في السجن، بتهمة الانتماء إلى الجبهة الوطنية الفلسطينية والحزب الشيوعي. أيام كثيرة مرت في المنفى.
هذا اليوم، ذهبنا، نعيم الأشهب وأنا، إلى طولكرم لتهنئة محمد أبو شمعة بالعودة إلى الوطن بعد غياب طويل. تناولنا طعام الغداء في بيت أخيه في قرية ارتاح التي أصبحت واحدة من ضواحي طولكرم، ثم واصلنا سيرنا في سيارتي إلى الناصرة لزيارة الروائي إميل حبيبي.
وصلنا إلى مستشفى العائلة المقدسة. كانت حالة إميل غير مطمئنة. عدنا في المساء إلى القدس.
مات إميل حبيبي في وقت مبكّر من صباح هذا اليوم الخميس 2 / 5 / 1996. تحدثت الإذاعات عن وفاته. إذاعة فلسطين قدمت برنامجاً حول أدبه الروائي. عممنا في وزارة الثقافة على أجهزة الإعلام بياناً حول إميل حبيبي، تحدثنا فيه عن دوره البارز في الثقافة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
في مقر الوزارة ظهر هذا اليوم، تبادلت الحديث مع ياسر عبد ربه وزير الثقافة حول العدد الثامن من "دفاتر ثقافية". وعلمت منه أن محمود درويش وصل إلى الوطن قادماً من عمان، وهو الآن في الناصرة.
بدأت هذا المساء بقراءة خرافية "سرايا بنت الغول" مرة ثانية. كان إميل أهداني نسخة أثناء أحد لقاءاتنا في القدس.
ذهبنا إلى الناصرة، نعيم الأشهب، حنا عميرة، زياد الحموري، أبو حسين ناصر الدين، هند البندك، وأنا لحضور جنازة إميل حبيبي. وصلنا متأخرين بعض الشيء. كان جثمان إميل مسجى في كنيسة البشارة.
ألقى الشاعر محمود درويش كلمة في وداع صاحب المتشائل. شارك في الجنازة حوالي ألفين من الكتاب والمثقفين ورجال السياسة. اتجهت الجنازة بعد ذلك إلى حيفا، لدفن الجثمان هناك تلبية لوصية إميل الذي طلب من أهله أن يكتبوا على شاهدة قبره "باقٍ في حيفا".
لم أذهب إلى حيفا. عدنا في المساء إلى القدس، ثم اتجهت إلى رام الله لحضور حفل موسيقي تحييه فرقة أوركسترالية أمريكية بدعوة من وزارة الثقافة وجامعة بير زيت. وصلت متأخراً واستمعت إلى مقطوعات موسيقية عذبة لموسيقيين كبار: شتراوس وآخرين.
زارنا الشاعر محمود درويش في مقر وزارة الثقافة. تحدثنا أحاديث عابرة، ثم اتفقنا على تنظيم لقاء له مع نخبة من الكتاب والمثقفين في مقر الوزارة.
كتبت إلى مجلة الوسط شهادة عن إميل حبيبي.
كان أولادي وزوجاتهم عندنا هذا المساء. حملتُ الحفيد بشار بعض الوقت. عمره الآن يقترب من الثمانية أشهر، تبدو عليه مخايل الذكاء في وقت مبكر. راقبت الورود في حديقة البيت عدة دقائق، ثم ذهبت قبيل الثامنة مساء لرؤية الوالد والوالدة.
منذ أيام لم أقرأ شيئاً بسبب كثرة الانشغالات. أجلس الآن قريباً من نافذة المطبخ في بيتنا. الطقس حار والقمر بوجهه النحاسي يطل علي من النافذة، والساعة الآن هي الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل.