- 24 أيلول 2024
- مقابلة خاصة
القدس - أخبار البلد كتب المحرر الثقافي
خص الكاتب والناقد والروائي " تحسين يقين " جريدة " أخبار البلد" المقدسية بهذا النص الادبي الرائع الذي وجده بين دفاتر أيامه القديمة، نص كله ذكريات الأيام الجميلة والتي تشكل ذاكرة المكان والزمان والتي يجب ان تنقل للأجيال القادمة كاملة .
هذا نص يعكس تجربة الكاتب منذ طفولته في التنقل والتجوال والرحلات، لكن حنينه يظل لأول منزل، فقد عكس اكتشافه للمسافة القريبة بين بيت أسرته وبيت الحاجة ليلى، اكتشافا اخر اخر بين بلاد الشرق حين زار كوريا وبلاد الغرب في اوروبا وامريكا .
بقلم : تحسين يقين
اهداء خاص لكل من يحن لتلك الايام..
اهدي نصي الحميم..لعله يقود الى شيء كان وسيكون من محبة وسلام في الكون عن المكان.
كم كانت الدنيا كبيرة ونحن أطفال! كل طفولة ولها مهدها، لكن دوما يظل للمكان الأول أهمية في تشكيل الوعي والشعور، وهو سيظل الوطن الصغير. من أول المشي حتى الصف الأول، كنا نتحرك في مساحة مئة متر تقريبا، هل يتصور أطفال اليوم هذا الأمر؟
من بيتنا حتى دار "الحجة ليلى"، التي كنا ننطقها بكسر اللام وتسكين الياء؛ وذلك ما دفع ابن خالتي للغناء:
"طولي يا ليلة للفنان ذياب مشهور، الذي سمعناها في مسلسل صح النوم لدريد لحام الشهير بغوار وصحبه، والذين أصبحوا نجوما، فرحل من رحل وبقي منهم من بقي سبعينيين وثمانيين. كنا نقضي الوقت، نلعب ونلهو في تلك المائة متر، كانت تلك المساحة عالما شاسعا لنا. أما أول البلد من بعيد، فكنا نظنها عمان.
كانت مكانا لكل الألعاب الشعبية المجانية، والممتعة، ومن الألعاب المفضلة، التي لعبناها فيما بعد، هو البحث عن حجر أملس، ودهن باطنه بالصابون، والتزحلق عليه، وكانت المتعة تتضاعف بوجود حجرين، واحد نجلس عليه، وآخر لوضع القدمين.
كذلك ثمة لعبة "العجال"، وعمل "تركات" بأسلاك "الخريص"، ولعل تلك الألعاب تحتاج صفحات. وقد كان يبدو الطريق طويلا ومفاجئا لي، حين تبعثني أم بشيء لبيت أختي الكبرى، سهيلة أم حمدي، كان المشي الى هناك بالنسبة لي سفرا، إن زيادة 200 متر كانت تعني لي السفر خارج المكان.
في تلك المساحة الكبيرة، بالسماء والشمس، درجنا أنا وأخويّ سعيد وداود، لتقاربنا بالسن، الأكبر منا كانا قد غادرا المساحة، وسلمونا إياها. أما نصار فإلى رام الله حيث مدرسة الهاشمية العريقة، أما الأخ الأكبر منصور فمن الهاشمية طار الى مصر لدراسة الطب، صرنا نسمع عن رام الله ومصر، القاهرة، ونهر النيل، وبالطبع هذا بالإضافة الى القدس، مدينة القرويين في ذلك الوقت.
منذ تفتحت عيناي على ما حولي، بدأت ألاحظ موجودات المكان من حيوانات وشجر وأرض، كان لدينا من الحيوانات بضع دجاجات وديك، وشاتان وبقرة بلدية، وبغلة، وحمار، وقطان أبيض وأسود، وكان أخي الكبير يضيف إلي البيت اليمام البري في كل صيف.
ولم يكن لدينا في حوش البيت أشجار، لكن أمام البيت بعدة أمتار فقط، كانت أشجار البرقوق والمشمش والتين والدراق، والذي كنا نشتهي قطف حبات منه، لكننا منعنا من ذلك من صغرنا، ربما حتى لا تقع الأسرة في مشاكل من وراء ذلك.
ما زلت أتذكر البقرة البلدية، بشكل خاص، وقد اعتادت جدتي سارة رحمها الله أن تطلب مني تقليد والدي رحمه الله وهو يحلبها..أما الشاتان فقد كنا نسعد بسخولهما في كل شتاء، فكنا نلاعبها وندفئها تقودنا إلى أفعالنا براءتنا، وقد امتد حنانا إلى القط الذي كنا نسمح له بالتمدد تحت كانون النار، طلبا للدفء، وأحيانا نحنو عليه فينام قسطا من الليل عندنا، ثم يطلب الإذن للخروج.
كان تناول الدجاج محدودا في قريتنا، حيث كنا نعتمد عليه من أجل توفير البيض، وكنا نحن الأطفال نعرف لمن هذه الدجاجة ولمن هذا القط أو الحمار والبغل والشاة وغيرها من الحيوانات لصغر قريتنا. من الذكريات الغالية عليّ هو موسم خميس البيض، حيث كانت النساء تسلق البيض، فنسعد بألوانه ونعجب كيف كن يلون البيض بإضافة ورق الورد على البيض المغلي، وكنا نحرص على بقاء البيضات في أيدينا.
وكان يخف العجب وينتهي حين تتحرك أمعاءنا جوعا، خصوصا إذا ما بادر أحد الأطفال بتقشير بيضته وتناولها..! بقينا دهرا في تلك المساحة الكبيرة فعلا بتفاصيلها، ولعل ما غاب هو أكثر، والأحداث أكثر وأكثر، منها عندما "داس" الباص "دجاجتنا البياضة"، لنترك بقيتها للسيرة الذاتية الأكثر بساطة، فلا بطولات ندعيها، سوى العيش على تلك الأرض.
وأخيرا، زادت المسافة والمساحة، صارت 450 أو أكثر بضع أمتار، (عليّ مرة أن أقيس المسافات لوطني الصغير-الكبير جدا)، إنها المدرسة، التي دعاني لها معلمي الأستاذ رفيق، ولم أكن قد وصلت الصف الأول، وتلك قصة لها وقت ومساحة أخرى، المهم هنا زادت مسافة السفر، حتى أنني صرت أتجاوز بيت أختي، بل اقتربنا من عمان، وهي ما كنت أفترضه حين أرى أول بيت من بعيد في القرية.
زادت التفاصيل، طقوس الصباح، كان ال 40 طالبا وطالبا في المدرسة بالنسبة لي مجتمعا كبيرا. وحين كبرت قليلا، صرت أتجول في القرية، وصارت الأسرة تصطحبني إلى الكروم، خصوصا في موسم قطف العنب، ذلك الموسم الذي كان يكون عبارة عن احتفال ومهرجان يدوم بضع أسابيع.. ولا زلت أتذكر بدهشة كيف أن العنب لم يكن واحدا في كرمنا، فكان منه الأسمر الذي يسمونه بالعنب البيتوني، والأخضر وهو الذي يسمونه بالعنب الأبيض، وعجبي من ألوان العنب هو عجبي من ألوان البرقوق أيضا.. كنا نترك المكان ولم ننته منه، لنعود في اليوم الثاني مليئين بالأفكار لتنفيذها، وخلال ذلك كنا نتآلف مع البيئة بموجوداتها، ننفق الوقت إلى مداه من الطيور والقطط والدجاجات الذي كنا نعابثهن، أما الديك، فما كنا "نطب فيه"، كان يلاحقنا، وكانت لديه، للحق، شهامة الدفاع عن الدجاجات.
وفي يوم ذهب والدي إلى الخليل واشترى لحم جمل، فاستغربت ذلك، ولم أشأ تناوله، ولكن حين طبخته أمي تغير القرار، فأكلت منه، وكان شهيا..
بعد المرحلة الابتدائية انتقلنا للدراسة في قرية بدو، وهي مركز القرى، أمضينا فيها ست سنوات، انتقلت بعدها إلى مصر للدراسة الجامعية، وبعدها زرت عدة بلاد، ولم أتخلص من عادتي في تأمل الأماكن بحماس طفل ووعي كبير، ورأت كيف أن البلاد تختلف في طبيعة الأرض، والمناخ، واللغة والثقافة والملابس والطعام والشراب.
وحين كنت أعود إلى فلسطين، كنت أدهش كيف أن بلادنا الصغيرة كأنها قارة بمناخات مختلفة وتراب مختلف، فرحت أتجول فيها، وأكتب عنها، كل ما أرى، فهبطت إلى البحر الميت والأغوار، وصعدت الجبال، وهبطت إلى السهول في الداخل، والسهول على البحر، وقد كنا نذهب في رحلة، نتنقل فيها بين عدة مناخات، وكنا نرى كيف أن لكل منطقة نباتات وحيوانات خاصة بها.
فالجمل في الغور، وفي برية القدس، و الغزلان في الجبال، كذلك الشجر، فالموز في أريحا والبرتقال في يافا والعنب في الخليل..وحينما وقفت على جبل الشيخ المكسو بالثلج، قفز قلبي ابيض مني، فهتفت من كل قلبي:
كم أحبك يا بلادي! وكم أنت كبيرة يا فلسطين.
وهكذا قررت أن أكتب عن كل مكان أزوره فيها. كتبت عن تلك البلاد وبلادي، ومن هنا جاءت البرتقالة..الواحدة: برتقالة واحدة لفلسطين، والقدس تجوال العين والروح، ومخطوطات أخرى نشر معظمها متسلسلا في جريدة "الأيام"، التي لرئيس تحريرها الكاتب أكرم هنية الفضل في تشجيعي بهذا النوع من الكتابة وما زال.
لكن مع معايشة الأماكن، وجدت نفسي أختار مكانا بمساحة صغير، للتأمل والكتابة، فقد حددت مرة منطقة برج الساعة والسرايا في نابلس للكتابة، ولعب لم انته بالطبع من تلك المساحة العمرانية الغنية. ما زالت الدنيا كبيرة وواسعة، رغم أنها صارت صغيرة نفسيا.. نتجول اليوم في مساحات أطول بكثير من المسافة ما بين دارنا ودار "الحجة ليلى"..
حين وصلنا آخر الماء غرب العالم بأمريكا، وشرق العالم في اليابان، تذكرت مجسم الكرة الأرضية، وخارطة العالم، نظرنا كأطفال الى الخارطة، وجدنا المسافة كبيرة بين الشرق والغرب، اقتربت من معلم الجغرافيا، الأستاذ قنديل، قلت له:
- ليست بعيدة المسافة بين أول العالم وآخره!
- ..............................
- أليست الكرة هذه خارطة؟
- ...................
قمت بعمل حركة بأصابعي، قلت له: الآن انظر، أنهما قريبان جداااا.
فابتسم، وماذا بعد يا تحسين؟
قلت بقي شيء واحد، أمريكا بالنسبة لنا هنا ولأوروبا يمكن أن نقول إنها اكتشفت قبل قرون، لكنها لهؤلاء قريبة، ووضعت إصبعي على الخارطة، كانوا يعرفونها.
فابتسم مرة أخرى..وحينما كنت في كوريا الجنوبية قبل عقد من السنوات، لاحظت أن خارطة العالم عاملة إزاحة لليسار"شفت"، كيف يعني؟
يعني تبدأ بقارتي الأمريكتين، وتنتهي بقارة أفريقيا.
سأقرأ عبارة "الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان" للشاعر الإنجليزي "روديارد كبلنغ" في نهاية القرن التاسع عشر مبتسما؛ فلكل مساحاته ومسافاته. تلك ليست مشكلة الجغرافية ولا الإنسانية، تلك مشكلة أخرى.
تذكرت الطفولة، وكلما كنت أطير، وأرى البلاد، فإن أول ما اراه دوما حين أرى من بلاد:
تلك المسافة ما بين دارنا ودار "الحجة ليلى"؛ فأردد مقدمة أغنية ذياب مشهور طولي يا ليلة، ضاحكا من أسد ابن خالتي وهو يغنيها، مترحما على "الحجة ليلى".