- 16 تموز 2025
- مقابلة خاصة
القدس- أخبار البلد- كتب خليل العسلي :
قبل اقل من اسبوع من وفاة الفنان الرائع والمسرحي الفذ "عادل الترتير" قام الصديق "زياد خداش" الكاتب المتألق بمبادرة إنسانية لم نكن نعلم انه سيكون لها بالغ الأثر في نفوسنا جميعا ، ففي زيارته الدورية للقدس التقينا في مكتب الصحفي والناشط المعروف "نبيل الجولاني" الذي يعتبر موسوعة القدس السياسية والإعلامية ، حيث قام بالاتصال عبر خاصية الفيديو مع الفنان "عادل الترتير" من أجل إلقاء السلام عليه وتذكيره بصداقتنا له ، فالحواجز الإسرائيلية لم تجزئ المدن بل قطعت أوصال العلاقات الإنسانية ، كان حديثا سريعا ذو شجون وصل الى حد البكاء من شدة التأثر لهذه المكالمة التي لم نكن نعرف أنها ستكون الأخيرة وأنها بمثابة وداع صديق لم نتلقى به لسنوات .
فشكرا لزيادة ورحمة الله عليك يا صديقنا ايها الفنان الملتزم الذي رسم البسمة على وجوه الآلاف من الأطفال والرجال والنساء والفتيات في فلسطين، والذي كان علامة فارقة في دنيا الفن والمسرح.
وهنا تذكر الروائي المبدع الاستاذ الصديق " محمود شقير" بداية حكاية الفنان عادل الترتير والذي خصص له مساحة في كتابه " قالت لنا القدس" ، منشورات وزارة الثقافة 2010.
ويسعدنا ان نعيد نشر ما كتبه المبدع الرائع الاستاذ " شقير" :
حينما انعقد مؤتمر "القدس هي الكلمة" الذي دعا إليه مركز أوغاريت للترجمة والنشر، كان من الطبيعي أن تكون لفرقة بلالين المسرحية أو من يمثّلها حصّة في المؤتمر. جاء إميل عشراوي وماجد الماني وعادل الترتير، والثلاثة هم من رموز فرقة بلالين الأوائل، ومن المؤسّسين الذين ابتدأوا التجربة الرائدة في القدس أوائل سبعينيات القرن العشرين، مع فرنسوا أبو سالم، سامح العبّوشي، نادية ميخائيل، مايكل مسيس، علي الحجّاوي وآخرين.
تحدّث إميل عشراوي الذي كان أحد أبرز ممثلي فرقة بلالين، عن التجربة الوليدة آنذاك، ووضعها في سياقها ونظر إليها من مسافة ما، ورأى ما كان فيها من عناصر النجاح، وما أصابها وأصاب الحركة المسرحية الفلسطينية فيما بعد من نهوض وتبلور وانطلاق، ومن تمزّق وتناحر وانشقاق، أدّى مع مجموعة من التطوّرات السلبية الأخرى في غير ميدان من ميادين حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، إلى تراجع الحركة المسرحية وإلى دخولها الآن، رغم بعض الأعمال المتميّزة، في حالة من المراوحة في المكان، تحتاج معها إلى مناقشات مستفيضة وإعادة نظر وتقييم.
وتحدّث ماجد الماني مكملاً حديث عشراوي ومنوّهاً إلى دوره في الحركة المسرحية، وهو الذي كان له دور لافت للانتباه في سبعينيات القرن الماضي، ثم انسحب من التجربة وغاب فترة طويلة، وعاد مؤخّراً للمشاركة في عمل مسرحي جرى عرضه في القدس. أمّا إميل عشراوي فقد غادر المسرح نهائياً وانصرف إلى أنشطة أخرى ثقافية وفنية، رغم أنّ هموم المسرح ما زالت تسكنه، وهذا يعني أنّ اهتمامه بالمسرح لم ينقطع بأيّ حال.
الوحيد الذي لم يغب هو عادل الترتير، فهو منذ تلك السنوات البعيدة نسبياً وحتى الآن، ما زال مثل القابض على الجمر، يمارس دوره في التمثيل، وفي التنويع على تجربته خصوصاً في ميدان عرض الحكايات الشعبية للأطفال في القرى والمخيّمات والمدن، وفي المدارس والنوادي والتجمّعات.
تحدّث عادل الترتير بحرقة وانفعال في المؤتمر، وكان كمن يقرع الجرس منبّهاً إلى المخاطر التي تتعرّض لها الحركة المسرحية الفلسطينية، التي أصبحت مُرتهنة لأموال المانحين الأجانب ولوجهات نظرهم ولأجنداتهم السياسية والثقافية، ما سلب الحركة المسرحية روحها الوثّابة المتوهّجة، التي ميّزتها في سنوات انطلاقتها الأولى، حينما لم يكن هناك مانحون ولم يكن هناك اعتماد على أموال المانحين، ولا راغبون في بحبوحة العيش على حساب الفنّ الأصيل. كان القائمون على المسرح آنذاك من المتطوّعين الذين بدا المسرح بالنسبة لهم تعبيراً عن موقف، وانتماء للوطن وللقضية وللإنسان ولكرامة الإنسان.
لذلك ظلّ عادل الترتير مخلصاً لرسالة المسرح لا يفاوض عليها ولا يساوم ولا يقايض، وظلّ فقيراً، يحصّل رزقه الحلال الذي يكاد لا يسدّ الرمق، من خلال جهده الدؤوب لتجذير حضور المسرح في بلادنا، وللحفاظ على دور الحكواتي وحمايته من الانقراض في عصر التلفزيون، ولتطوير هذا الدور، بعيداً من أموال المانحين ومن شروطهم التي قد لا تتوافق في أحيان غير قليلة مع متطلّبات الفن المنتمي إلى تربتنا الوطنية.
ولعلّ مما يُحسب لعادل الترتير، إصراره على مواصلة مشوار الفنّ الصعب طوال السنوات الماضية، من غير توقّف أو انتظار دعم أو مؤازرة من أحد. شارك في تأسيس فرقة بلالين المسرحية، ومن ثم أسهم مع فرانسوا أبو سالم ومصطفى الكرد وأنيس البرغوثي، في تأسيس فرقة صندوق العجب، التي ظلّ متمسّكاً بها منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي. وكان له دور الريادة في تجسيد فنّ المونودراما على خشبة المسرح الفلسطيني، واضطلع بأدوار متنوّعة في عدد غير قليل من المسرحيات، سواء أكان ذلك في التمثيل والإخراج أم في التأليف وإعداد النصوص وما له علاقة بالديكور، علاوة على مشاركته في التمثيل السينمائي وفي بعض التمثيليات الإذاعية والتلفزيونية، وفي بعض أفلام وثائقية كان آخرها فيلم أنتجته قناة الجزيرة الوثائقيّة، وأخرجته فيسنا شلبي، عن "أدب المقاومة" بعنوان: "اتفرج يا سلام"، وأدّى فيه عادل الترتير دور الحكواتي الذي يدير صندوق العجب، ويروي للسامعين وللمشاهدين مشاهد من المقاومة الشعبية الفلسطينية مثلما تجلّت في الأدب وفي الرقص الشعبي والحكايات الشعبية وفي الفن التشكيلي وغير ذلك.
الآن، يكرّس عادل الترتير كلّ وقته تقريباً لمواصلة مشواره الفني، ولترسيخ دوره المتمثّل في الراوي الشعبي، أو الحكواتي "أبو العجب" صاحب الملابس الشعبية المثيرة للانتباه، بشاربيه الكثّين اللذين يناسبان شخصية الراوي الذي يهدف إلى إدخال البهجة والفرح إلى قلوب الأطفال.
عادل الترتير الذي كانت انطلاقته الأولى في المسرح من القدس، من خلال فرقة بلالين، من حقّه علينا أن نتذكّره بين الحين والآخر، لأنّه ينهض بدوره الذي كرّس حياته له، دون أن تحتضنه مؤسّسة رسمية أو شعبية، ودون أن تنتبه إليه أيّة جهة لها علاقة بالفن والثقافة عموماً وبالمسرح على وجه الخصوص، في حين أنّ الوضع الطبيعي يستدعي انتباه هذه المؤسسات والجهات الثقافية الرسمية وغير الرسمية إلى الفنانين من أمثال عادل الترتير، وإلى كلّ العاملين في ميادين الثقافة بشتّى تفرّعاتها، لما يؤدّونه من دور خلاّق في تعزيز الهوية الثقافية لشعبنا، وفي تعميق حضور قيم التنوير والعقلانية والحداثة والتعدّدية والديمقراطية في حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكذلك في ترسيخ صمودنا فوق أرضنا في وجه الغزوة الصهيونية الاستيطانية التوسّعية.
وبالطبع، فإننا لا ننسى تكريم وزارة الثقافة الفلسطينية لعادل الترتير في العام 2005 بمناسبة يوم المسرح العالمي، غير أننا ونحن في العام 2009 المكرّس للقدس عاصمة للثقافة العربية، نؤكّد على أنّ عادل الترتير وزملاءه الذين انطلقوا معه من القدس، معلنين ميلاد الحركة المسرحية الفلسطينية، يستحقّون تقديم الدعم المادي لهم علاوة على التكريم المعنوي والإشادة بجهودهم المتميّزة ذات الصفة الريادية، مثلما أنّ زملاء آخرين لهم، ممّن أتوا بعدهم إلى المسرح وأدّوا على خشبته أو من خلالها وما زالوا يؤدّون أدواراً بارزة، يستحقّون الدعم والتكريم والإشادة بجهودهم أيضاً.
لعلّ مثل هذا الدعم والتكريم والاعتراف بدور الثقافة والفن في حياتنا، أن يكون بدايةً لموقفٍ صحيح تقفه الجهات المعنيّة في بلادنا من الفن والفنانين ومن الثقافة والمثقفين. وتحية لعادل الترتير الذي ظلّ مثابراً على أداء رسالته الفنيّة رغم كلّ الإحباطات والعوائق الجمّة والصعوبات. *