• 30 تموز 2025
  • مقابلة خاصة

 

(أعارني بيدبا حكمته، واورويل قلمه الساخر، لكن الجذور العميقة نزفت روحي ، فكتبت في نفس الوقت في كل من صحيفة "القدس"،  و شبكة "أخبار البلد" المقدسية )  سعيد الغزالي.

 فكان هذا ما خطه الصديق الصحفي والكاتب سعيد الغزالي: 

ليست "مزرعة الطوفان" رواية تقليدية تنتمي لأدب الحيوان الرمزي فحسب، بل هي صفعة أدبية بلغة ملحمية ساخرة، تسائل الضمير العربي والعالمي، وتخلط بين الواقعي والأسطوري لتعيد تشكيل الوعي، وتفكك منظومة الخنوع القومي كما لم تفعل أي رواية منذ "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل.

تبدأ الحكاية بمزرعة على شفا الانهيار، تحكمها مخلوقات أنيقة المظهر، شرسة السلوك، لا تخجل من بيع جلود أبناء جنسها لأسيادها في الجبل العالي. تتعدد الساحات والأنظمة، لكن الرابط بينها واحد: الطوفان قادم، وهم يعرفون ذلك… ويسكتون.

في هذه الرواية، لا تُسرد الحكاية على لسان بيدبا الحكيم، ولا جورج أورويل الثائر، بل على لسان كاتبٍ مجهول بلا نياشين، صحفي لا يحمل على كتفيه نجوماً ولا أوسمة، بل أربعين عامًا من مطاردة الحقيقة بمصباح ديوجين الصدئ، بحثًا عن شيء "أكبر من الأمل". إنه ابن الساحات المكلومة، وشاهدٌ لم يُسلّمه أحد وثيقة تفويض، لكنه كتب… كنت أمشي بين الرُكام، وأروي ما رأيت. قالوا لي: "من سمح لك بالحديث؟ أين بطاقة اعتمادك؟ ابتسمتوقلت: "أنا ابن الحقيقة، لست بحاجة إلى إذن أحد لكي أشهد".

هنا، حين تصير الحكمة ساخرة من نفسها، تُسمع ثلاث نغمات نشاز: 

معسكر يُدوي: " نحن أصحاب الحقيقة!"

معسكر يرد: " نحن أصحاب المصلحة"

معسكر ثالث يقاطع: "أيها السادة... من يملك الكاميرا؟"

في زمن الطوفان، حيث ارتبك الصدق وتلعثم الصدى، تنافرت الأصوات في ثلاث معسكرات:

● الغُرير وقف في المعسكر الأول، ينفخ صدره ويقول:

"انظر إلى الحقيقة من خلال فعلي، لا تحكم على قولي."

ثم مشى على دم الضحية، تاركًا خلفه جدلًا طويلًا حول نية الفاعل.

● أما المعسكر الثاني، فجلس فيه الخفاش الإماراتي، يشعل البخور حول الأسد الأعور، مرددًا:

"كل مجزرة لها روايتان... ونحن نُمول الرواية الأقوى."

● أما المعسكر الثالث، فامتلأ بالضباع المتفلسفة، يسألون:

"هل الحقيقة موجودة أصلًا؟ أم نحن نبالغ؟" ثم عادوا إلى ولائمهم دون أن يسمعوا صراخ الساحة.
وقد يكون أبرز من تحدث عن معسكر الزيف هو من لم يُمنح بطاقة اعتماد، ذاك الشاهد الذي طُرد من ساحة الاحتفال لأنه لم يأتِ ببذلة رسمية ولا بشهادة تطبيع. .. أتعرفونه؟ إنه الراوي نواف بن يقظان، من نسل الفيلسوف بيدبا. 

وقف يوما على هامش الضوء، وقال: "هنا يُصنع الزيف في مصانع مؤهلة، تُغلف المجازر بورق الهدايا، وتُعلّب الحقيقة في علب مشكوك في سلامتها الإعلامية."

كان صوته مبحوحًا من طول التهميش، ومع ذلك، دوّى في ساحة الرماد في أكثر من ألف نشرة أخبار. وقد يكون أبرز من تحدث في هذا المعسكر هو "اللعوب"، الذي يُقدَّم باعتباره شاهد الزيف غير الرسمي، حيث يقول في إحدى لقطاته: "كل شيء هنا يشبه الحقيقة… لكن لا أحد يحتملها إن كُشفت!" 

لا يُعرف هذا الكائن المراوغ "اللعوب" بنفسه، لكنه حاضر في مفاصل المشهد، يضحك حيث يبكي الآخرون، ويبوح بما لا يجرؤ غيره على النطق به.

 وفي الزاوية التي لا تُضاء بالكاميرات، كان هناك معسكر ثان لا يعترف به أحد… إنه معسكر الحيرة، هناك كانت الكائنات تمشي في دوائر، تقرأ كل التصريحات، وتصغي لكل النشرات والخطابات المنقولة، ثم تنظر إلى السماء وتهمس: "أين الشمال؟ وأين الدم؟ وأين الصدق؟ فقدنا البوصلة ليس لأن الحقيقة غابت. بل لأن الزيف تزيّا بكل الأزياء…فباتت الضحايا متهمين، والجلادون ضيوف شرف.

على أطراف الساحة، بعيدًا عن ضوء المنصّات وعن صخب معسكرات الزيف والحيرة، وقف معسكرٌ ثالث… لم تعترف به النشرات، ولم يجرِ له بثّ مباشر، إلا في بعض الـ... بما لا يتجاوز نصف قناة، ونصف خبر، ونصف حقيقة. لا يملك هذا المعسكر مقاعد في المحافل، ولا امتيازات سفر، لكنه يتكئ على جذور منفية، لم تخلعها الأعاصير. وعلى أصوات تكاد تُنسى.. لكنها تحفظ الوصايا وتحمل سرّ الذاكرة. 

قائد هذا المعسكر لم يكن جنرالًا، بل شبح شهيد يسكن وجدان التلال. لم يكن شعاره علمًا، بل أغنية خافتة تُغنّى تحت القصف. ومع ذلك…كان الوحيد الذي يعرف الطريق إلى الحقيقة.

في هذا المعسكر يُقال: "لسنا على يقين من النصر، لكننا نعرف أن الطوفان لا يُقاوَم بالركوع." لا تقدم الرواية حلًا، لكنها تزيح الغطاء عن الخراب بجمال مرير. كل ساحة فيها مرآة لساحة، وكل كائنٍ فيه شظية من واقعنا الممزق.وجميع المرايا والشظايا تسحب القارئ من أوهام الخلاص السريع، وتغرسه وسط الحطام، كي يرى بعينيه... لا بأمنياته. انظر ماذا فعلت. 

لم تكن البومة فلسطينا تملك عصا سحرية، ولا الهدهد الشامي كان يحمل خطة تحرير من ثلاث خطوات، كل ما فعلوه.. أنهم أداروا وجه المرآة نحو المزرعة، فانكشفت الوجوه التي تلونت بالوهم، والأنظمة التي اختبأت خلف أقنعة الواقعية، والجماهير التي اعتادت التصفيق حتى في الجنازات. 

لم يأتِ أحدٌ بالحل، لأن الحل – كما قالت الجذور المنفية – يموت حين يُصاغ في المكاتب، ويُبعث حين يُزرع في الأرض. الرواية إذن، ليست كتاب ارشاد... بل جرس إنذار. ليست دستورا... بل صرخة ذاكرة. 

ليست هذه الرواية نشيدا وطنيا يُرتل في الساحات، ولا خريطة خلاص مرسومة بأقلام الدبلوماسية، إنها مرآة مشقوقة وضعت في قلب المذبحة، فانعكست فيها الوجوه التي نسيت شكلها، والكائنات التي تعلمت التعايش مع الرماد.

لا تقدم "مزرعة الطوفان" حلا، بل تُخرج الخراف من حظائرها، تزيح القش عن جماجم المنصات، وتكتب بحبر الجذور المنفية، وصية واحدة: " الخراب لا يُرمم قبل أن يُعاش".

قراء الحلول السريعة سيتضايقون، وقراء الحقيقة سينتفضون، وأما الصامتون ببطاقة اعتمادهم، فسيطلبون نسختهم المترجمة... كي لا يسمعوا الصراخ بلغتهم الأم.