• 19 كانون أول 2021
  • ثقافيات

 

 

 القدس - أخبار البلد ”إن أول ما لفت نظري جذريًّا حين عكفت على قراءة أعمال إبراهيم نصر الله الكاملة“ يقول الدكتور صلاح فضل، أنه قادر منذ البداية على خلق حقائق شعرية جديدة، على صنع متخيّل لا يتراءى نظيره إطلاقًا في قصيدة سابقة عليه. 

إننا نرى لونًا من الانهمار الجماليّ في الكون، عبر منظومة فنية متكاملة، هي وسيلة الشاعر لتشعيل هذا العالم، عندئذ يتخلص خطاب الشعر من حصريته وقصريته، وأحاديته، ليكون مدنيًّا وليس مُجندًا، ليكون واسع النبالة متنوع الشعرية، ليكون شديد النُّدرة والحيوية والجمال. 

الأعمال الشعرية للشاعر والروائي إبراهيم نصر الله  صدرت في بيروت عن الدار العربية للعلوم- ناشرون، في ثلاثة مجلدات تضم مجموعاته الصادرة بين عام 1980 التي افتتحها بديوانه "الخيول على مشارف المدينة" وعام 2017 الذي أصدر فيه ديوان "الحبّ شرير".

وقد شهدت تجربة نصر الله خلال هذه الفترة الزمنية الواسعة تحولات كثيرة في خياراتها الجمالية والفكرية المتنوّعة، بدءًا من القصيدة بطولها العادي، إلى القصيدة القصيرة جدًّا التي كرّس لها أربعة أعمال شعرية، مرورا بالقصيدة السِّيرية، الملحمية، وصولا إلى العمل الأوبرالي، ويلاحظ هنا إفادة هذه التجربة من تقنيات السرد الروائي، والسينما، والفوتوغراف، واللوحة التشكيلية، والفلسفة.. وغير ذلك من المشاغل الفنية والفكرية والوجودية، ويتناول هذه الجوانب عدد من كبار النقاد العرب في دراساتهم لهذه التجربة التي شكلت مقدمات للمجلدات الثلاثة كتبها نقاد من فلسطين ومصر والعراق.

 يكتب الدكتور إحسان عباس في تقديمه للمجلد الأول: أتجاوز حدود الطموح الطبيعي لو ادّعيت أنني أستطيع كتابة دراسة نقدية دقيقة عن ديوان إبراهيم نصر الله؛ أرضاها ويرضى بها القراء، فقد قطع إبراهيم مراحل عديدة ورسم لتطوِّر شعره خطًّا فيه امتداد وفيه انعطافات، وعملٌ مثل هذا يتطلَّب دقّة في تسمية المراحل وتحديد مميزات كلّ مرحلة. وهناك شيء ضائع أبحث عنه فلا أجده (الآن)، وهو الزّمن الكافي للإحاطة بهذا الدّيوان الكبير.

مع إبراهيم نصر الله اتخذت القصيدة القصيرة بُعدًا جديدًا حين أفردت في ديوان كامل، دون أن يكون ذلك سأمًا من القصيدة الطويلة التي أجادها في "نعمان يسترد لونه" وفي "الفتى النهر.. والجنرال" وغيرها من دواوينه. ثم إن انتقاله بين الشعر والرّواية يدل على أن طول الشّكل لا يقف في طريق إبداعه. 

إن قصيدة "راية القلب" وحدة كبرى في تحدّي الموت.. وإذا ما تتبعنا مسيرة إبراهيم فإننا نلاحظ أنه يعمل على أن يتطوّر وأن يُقدِّم شيئًا مختلفًا عمّا سبق في كل ديوان. فهو يصل إلى مرحلة لا يريد بعدها أن يعبر -مثلا- كما في "الفتى النهر.. والجنرال" فجأة نراه يكسر القلم الذي يكتب فيه "الفتى النهر.." ويكتب "عواصف القلب".. أو "براري الحُمّى" في محاولة قصصية من أكثر المحاولات تطوّرًا في العالم.

هذا هو إبراهيم نصر الله.. لعلّه أكثر صوت تفرّدًا في جيله. استطاع أن يحقّق معجزة فنية حين تعامل مع الصور الحديثة -التي هي صوره الخاصة- ومع اللغة الحديثة -التي هي لغته الخاصة.

إبراهيم نصر الله ظاهرة فذَّة في الشعر العربي الحديث، كونٌ جديد، شاعرية غريبة، تملأ فضاء في سعة المنفى الماديّ والمعنويّ.

     الناقد الدكتور صلاح فضل كتب مقدمة المجلد الثاني، ومنها: تمثل تجربة إبراهيم نصر الله مفاجأة مذهلة وبديعة مستمرة بالنسبة لي، إن أول ما لفت نظري جذريًّا حين عكفت على قراءة أعماله الكاملة أنه قادر منذ البداية على خلق حقائق شعرية جديدة، على صنع متخيّل لا يتراءى نظيره إطلاقًا في قصيدة سابقة عليه. 

إننا نرى لونًا من الانهمار الجماليّ في الكون، عبر منظومة فنية متكاملة، هي وسيلة الشاعر لتشعيل هذا العالم، عندئذ يتخلص خطاب الشعر من حصريته وقصريته، وأحاديته ليكون مدنيًّا وليس مُجندًا، ليكون واسع النبالة متنوع الشعرية، ليكون شديد النُّدرة والحيوية والجمال.

إبراهيم نصر الله شاعر يردّ لنا كثيرًا من الثقة في أن شعراءنا اليوم لا يسلكون دروبًا إبداعية مسدودة، تضيّق من فضاء الشعر، وتحدّ من مقروئيته، ولكنه قادر بامتلاكه لطاقة تجريبية هائلة، على أن يخلق أشكالًا فنية جديدة، وليس هذا مجالا كي نتطرق إلى منجزاته السّردية الروائية، ولا لإبداعاته التشكيلية، لأنها مجرد مظاهر تجليات لهذه الطاقة... 

.. لا يمكن لقصيدة يكتبها مثل هذا الشاعر الآن أن تُكتب منذ عشرين عامًا، لأنها تستوعب كلَّ المنجز الجمالي الذي حدث في الأعوام العشرين الماضية... كل ذلك يعززه رصيد ثري من أشكال التجسيد لحقائق شعرية جديدة تجعل نصوصه منفتحة على التجريب ومنسجمة في توافقها الكلّي الشامل... ومن هنا يحق لنا أن نتفاءل بمستقبل الشعر العربي كما ينبثق في هذه الأرض المبدعة الخلاقة لقصائد إبراهيم، حيث تمثل قصيدته إنجازًا نوعيًّا، وتجربته تؤكد أن بإمكان الشاعر أن يجدِّد كثيرًا ويظلّ شاعرًا موصولًا بجملة المنجزات الجمالية للفنون كلها.

     كلمة غلاف المجلد الثالث كتبها الشاعر الدكتور علي جعفر العلاق ويقول فيها: ونحن نقترب من تجربة إبراهيم نصرالله الشِّعرية، علينا أن نضع في اعتبارنا أنه روائي أيضًا.. هذا التشابك بين السّرد والشعر يظلّ حاضرًا بكثافة أكبر ربما في قصائد إبراهيم نصر الله لتجاور هاتين الملَكتين في الذات الواحدة، أعني الشعر والسّرد.

يمكن القول إن أية قصيدة يتم أخذها عشوائيًا لا بدّ أن تشتمل على قدر ما من العناصر السّردية؛ فمعظم قصائد نصر الله مخترقة بالسّرد.  ليس هناك، إلّا نادرًا ربما، قصيدة تقف مثالًا صافيًا باعتبارها حدثًا لفظيًّا محضًا، أو خطابًا لسانيًا تامًّا. إن عددًا ضخمًا من قصائد إبراهيم نصر الله يتوزّعها السّرد والشعر بطريقة جذابة، بحيث تبدو كل واحدة من هذه القصائد خطابًا شعريًّا كثيفًا من جهة، لكنه، من جهة أخرى، مشبع بالسّرد إلى حدّ كبير دون أن يفقد طبيعته الشعرية المهيمنة.

يتمدّد السّرد أحيانًا متجاوزًا حدود القصيدة القصيرة، ليستغرق ديوانًا كاملًا كما هو الحال مع ديوان "بسم الأم والابن" الذي تتضافر قصائده جميعًا، وبتقنيات سردية وشعرية مختلفة، لتُجسّد لنا تجربة أُمّ تُعيْد على مسامعنا وضمائرنا رواية تاريخها بكل غرابته ومباهجه. وهذا الديوان قد يكون فعلًا "أول ديوان يكرّس بأكمله لتلمس شخصيّة الأم من الداخل".  وقد يستغرق السّرد قصيدة كبيرة لتشكل مركز الثّقل في ديوان بكامله كما في قصيدته "الفتى النهر.. والجنرال"، وقصيدة "الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق" المنشورة في الديوان نفسه،  كما ينطبق هذا على قصيدة أخرى هي "راية القلب"؛ كثافة سردية كبيرة حشد لها الشاعر، لتعزيز متنها السردي، عددًا من المراجع، والإيماءات القديمة والمعاصرة.

يذكر أن نصر الله نال عددا من الجوائز عن أعماله شعرية، كانت جائزة "سلطان العويس للشعر العربي 1997" واحدة من أبرزها، إلى جانب جائزة "عرار" للشعر، وحصوله على جائزة أفضل ديوان شعري ثلاث مرات عن ثلاث من مجموعاته الشعرية، وتناول تجربته عدد كبير من رسائل الدكتوراه والماجستير، وترجمت قصائده إلى عدد من اللغات العالمية من بينها الإنجليزية، الإيطالية، الإسبانية، الألمانية، الفرنسية، وذلك كله إلى جانب تجربته الروائية المتمثلة في مشروعيه الروائيين "الملهاة الفلسطينية" و "الشرفات" اللذين حظيا باهتمام واسع وتقدير أهَّله للفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2018، وجائزة "كتارا" التي نالها مرتين، وجائزة تيسير سبول.

وتنظم مؤسسة عبد الحميد شومان في السابع عشر من شهر كانون الثاني 2022 أمسية شعرية موسيقية وحفل توقيع احتفاء بصدور الأعمال الشعرية.