- 18 تشرين الثاني 2024
- نبض إيلياء
بقلم : خليل احمد العسلي
مقهى كستيرو المكون من غرفة صغيرة في حي المصرارة بالتأكيد لا يعرفه الكثيرون من سكان القدس ولا من ضيوفها رغم أنهم لا بد وان مروا من أمامه في طريقهم الى البلدة القديمة أو خروجا منها .
هذا المقهى المتواضع بحجمه وبنوعية زبائنه فهم اما من العمال العابرين أو المنتظرين لاي منادي لهم للقيام بعمل يومي سريع، بات له رمزية في الصراع على هوية المدينة وعلى طابعها المتعدد المتسامح أمام الطابع الأحادي المسيطر غير المتسامح .
هذا المقهى هو أشبه بفهرس كبير لحكايات هؤلاء الزبائن البسطاء الذين حطوا فيه رحالهم العابرين المنتظرين للفرج، او الزبائن الراغبين بلحظة هدوء مطلوبة في حياتهم الصاخبة المشحونة في زاوية صغيرة بعيدة عن أعين المتطفلين، هؤلاء الزبائن الذين يتحلقون حول فنجان قهوة عربي سادة لذيذ او كاس شاي ساخن بالنعناع او الميرمية يدفئ قلوبهم واطرافهم من البرد المقدسي القارس الذي ينخر في عظامهم مباشرة ، ويعطيهم الأمل بيوم أفضل.
هؤلاء الزبائن البسطاء هم الذين جزء من ذاكرة المدينة في مشهد مقدسية تقليدي يصر الزمن والمحتل على بتره في حركته الاخيرة.
مقهى كستيرو كغيره من مقاهي القدس الباقية وتلك التي اختفت هي بمثابة يوميات جمعت على مر عقود لتصنع حكاية المدينة وأساطيرها، فهو قديم بقدم الحي الحارس على البلدة القديمة فمن خلاله فقط يمكن الوصول الى باب العامود ومنه الولوج الى رحاب المدينة المحروسة المقهورة.
يقول محمد عودة كستيرو الذي أفني عمره في المقهى الصغير في حي المصرارة من عام ١٩٥٤ بعد ان قامت السلطات الاسرائيلية بطرده واغلاق المحل عندما استأجر الحانوت مما كان يعرف في الزمن الأردني حارس أملاك العدو، وهنا لمحمد تفسير جديد لهذا المعنى :" المقصود هنا أن هذا العقار كان مستخدما من قبل اليهود قبل عام ١٩٤٨، هؤلاء اليهود هم فلسطينيون ،اي أنهم جزء من الشعب الفلسطيني ونحن نطلق عليهم يهود البلاد وليس اليهود المحتلين القادمين من كل بقاع الدنيا للاستيطان والاحتلال، هؤلاء لا نعرفهم ولا نعترف بهم " .
وهنا يصمت كستيرو للحظات وهو يتأمل جدران المقهى المتهالكة لقدمها وينظر إلى التجويفه في السقف وهي عبارة عن قبة ذات طابع عثماني ، قبل أن تكون هذه آخر نظرات لهذا الحيز الذي تعيش في جنباته روحه ورائحة المكان هي انفاس الزبائن
قبل أن يقول :
"طبعا انا لم التزم بهذا القرار ولم أسلم مفاتيح محلي الذي أفنيت عمري فيه، فنحن الفلسطينيون لا نسلم مفاتيحنا للمحتل، لأن ذلك يعني إقرارا بأن موقفهم صحيح وهذا ليس صحيحا على الاطلاق، انا مستعد لتحمل النتائج مهما كلف الأمر.
في حالة مدينة القدس الحزينة الباكية أحوالها وأحوال أبنائها ، فإن ما هو مؤكد هو أن مقهى كستيرو قد اختفى، لأنه لا مكان للمعجزات في حال القدس ، بعد ان تركها الأهل والمؤمنون من مسلمين ومسيحيين لمصيرها تواجه المحتل، وما هو مؤكد انه سوف يظهر حانوت غريب يحل محل مقهى كسيترو ذات طابع متوحش بأسماء عبرية لا يمت لاصالة القدس بصلة، ويذكر المقدسيين والعرب المسلمين والمسيحيين انهم ضعفاء .
والأخطر هو أن اختفاء هذا المقهى العربي البسيط هي بداية اختفاء حي مقدسي بأكمله ، وتختفي معه حكاية مدينة تصارع على روايتها وعلى حكايتها وعلى حاضرها قبل ماضيها تصارع وحيدة أمام هذا القادم المصمم على تدمير الماضي والحاضر من أجل مستقبل مشوه بشع مثل أشجار النخيل قبيحة المظهر التي وضعت أمام باب العامود وهي لا تمت إلى واقع القدس بأي شيء لتكون عبرة للمقدسيين أن مدينة لن تكون لهم ذات يوم .
وللحديث بقية ….
طالما أن في القلب نبض مقدسي ..