- 8 آذار 2025
- حكايات مقدسية
بقلم د. علي قليبو
اقود سيارتي بتؤدة وحذر وسرعه لا تتجاوز السبعين والتزم أقصى اليمين تجنبا لأي مفأجاة ، فيكفي سائقان متوترين ينطلقان كالقذيفة من مسلك إلى آخر قد يؤدى الى فقدان حياتك. فلقد تصاعدت, ومنذ الأيام الأوائل لشهر رمضان, حوادث سير مريعة تربك تدفق حركة السير وتزيد من حدة التوتر التي تغمر البلاد ترافقها مشاهد مؤلمة من مشادات ومعارك ضرب مبرح بين الاهل والاصدقاء والمعارف يثورون في "شجارات" جماعية ، حيث تغص شبكات التواصل الاجتماعي بصور غير معهودة وعنف يهز مشاعرنا في اشارة واضحة للضغوطات الاقتصادية والسياسية التي تهدد كياننا.
تشوب بهجة حلول رمضان غلالة من القهر والإحساس بالظلم تعصف بوجودنا . فما زالت الحرب المجحفة التي شنها العالم علينا مستمرة يرافقها توقف العمالة وزيادة البطالة وتردي الوضع الاقتصادي فالسوق التجاري يعاني من حالة ركود.
في نفس الوقت تتوارد الأخبار عن المآسي في جنين وطولكرم ونزوح أهلها و اقتحامات متتالية لمدن نابلس ورام الله وبيت لح تتعالى الأصوات العدوانية صاخبة مطالبة بتهجير أهلنا في غزة لتضيف حدة التوتر السائد الذي تعيشه ، فأزمتنا ليست فلسفية بل وجودية مرتبطة بوجودنا وبقاءنا.
يأتي شهر رمضان الكريم والقدس ما زالت محاصرة بعزلة عن قرى ومدن الضفة وما أشبهها بقفص ذهبي وغدت الضفة الغربية وقراها متقطعة الأوصال منغلقة، كل قرية على ذاتها تحيط بمداخل القرى والمدن وحواجز عسكرية ، كما يهدد أمن وحياة الفلسطينيين رعاع المستوطنين الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها أصحاب الحق بنظر اميركا واوروبا وأمسينا نحن المستعمرين الاشرار ومهمشين سياسيا لتضاعف من حدة توترنا.
"رمضان كريم" "الله اكرم" مصطلحات تبادل السلام في الشهر الكريم تفصل وتميز شهر "السلام" و "قدسيته" عن بقية أشهر السنة الهجرية فهو ضيف عزيز ننتظره على مدار الشهور وما نكاد نلمح هلال شهر رجب حتى نستبشر متفائلين منتظرين هلال شعبان وعيوننا شاخصة الى السماء تتابع محاق القمر وصولا الى هلال رمضان شهر القيام والفرقان.فتحيط بشهر رمضان هالة من القداسة ترافقها مراسم وطقوس اجتماعية خاصة مميزة ، حيث أنه الشهر الذي بارك الله في كلياته وجزيئاته وهو شهر فيه كل ما يريده العبد من ربه وما يريده الله من عباده.
في رمضان يتخذ الزمن والمجتمع والفرد منحنى روحاني. و ينقلب ويتغير ايقاع الحياة الدينية والدنيوية فيتداخل الليل بالنهار ويتلاشى الإحساس بالزمن ما بين صلاة التراويح وقيام الليل والاعتكاف بالمساجد وتلاوة القرآن الكريم وتبعا لذلك تتغير الازياء من الزي الأوروبي المعاصر إلى الزي العربي التقليدي فيرتدي الرجال والشبان والصبيان الجلابيات والدشاديش. وتجد الرجال يتدثرون بالعباءات الدافئة يصلون خاشعين يسبحونه تعالى في اطار اجتماعي ديني متوارث أبا عن جد تحف به طقوس اجتماعية مرتبطة بشهر رمضان.
وفي هذا الشهر الفضيل تتجدد علاقة الفرد مع خالقه فيزهد عن الطعام نهارا. وتتجدد علاقته مع نفسه ومع الله جل وعلى، فيعتكف ركن في البيت أو الجامع منهمكا بقراءة القرآن بشغف عظيم وبالتسبيح والصلاة وتتكثف العلاقات الاجتماعية في زيارات رمضانية وإقامة مآدب الإفطار الجماعية مع الأهل والأصدقاء وجميع النساء والرجال من صلة الرحم.
في رمضان تتعمق أواصر العلاقات الاجتماعية بين أفراد الاسرة الواحدة فيجتمعون يوميا حول مائدة الإفطار ينتظرون أذان المغرب يرافقه صوت انفجار "مدفع رمضان" إيذانا بانتهاء الصوم وقلما يأكلون وحدهم، فشهر رمضان هو موسم تجديد الروابط الأسرية فلا ينسوا أحدا من الأهل.
يسود الإحساس بالتوتر والرهبة في رمضان حيث أن الطقوس الاجتماعية التي تحيط بالشهر الفضيل باهظة الثمن والعمل على شراء "المونة" الضرورية يعتبر ضغطا إضافيا على وضع الصائم فلرمضان "عجقة" يرافقها ازدحام الطرقات وانتظار طويل أمام المحلات التجارية لشراء الحاجيات وسط حشود الناس المتدافعة مما يثير الشعور بالإزعاج والإرهاق والحصار ، فلا مفر من أداء هذه الواجبات الاجتماعية المقدسة ليتحول احساس البهجة برمضان الى احساس بالعجز والقهر فإذا ما أضفنا فرائض الصيام وما ترافقه من تزهد للطعام والشراب نستطيع بسهولة أن نتخيل الضغوطات على المسلمين عامة في الشهر الكريم.
يتفاعل كل مسلم مع رهبة شهر رمضان كل حسب وضعه النفسي والاجتماعي والصحي فبينما نجد من يحتفي به مستبشرا فرحا ويجد بطقوسه الدينية الصارمة وما تتطلبه من زهد ونسك الراحة النفسية والطمانينة الروحانية متمتعا في المشاركة في الطقوس الاجتماعية بكل جزيئاتها من زيارات وإقامة المآدب الرمضانية التي يحكمها بروتوكول رسمي متعارف عليها اجتماعيا.
نجد آخرين مثقلين بتكاليف الشهر الباهظة وجلين من استقبال الضيوف فيصبح الحفل واجبا ثقيلا وامرا مجبرين عليه ، وعلى طرف النقيض نجد آخرين منغمسين بالجانب الروحاني كليا. فيعتزلون معتكفين منهمكين بالصلاة زاهدين عن الطعام والشراب يجدون في رمضان منفذا للتواصل مع الله.
فينعكس رمضان بقدسيته والضغوطات المترتبة على جزيئات شعائر الصيام كانقطاع عن فنجان القهوة والسيجارة بصورة متغايرة على الصعيد الانفعالي الفردي تتفاوت بين الحفاوة والانشراح وبين الرهبة والوجل والتوتر والعصبية ويتفاعل كل فرد بصورة لاواعية مع هذه التناقضات.
في هذا الجو العاطفي المشحون بالاحاسيس المتناقضة أصبحت برمضان أقود سيارتي في حرص شديد وببطء فلقد راعني تزايد حوادث السيارات في كل مكان و افزعتني مشاهد الشجارات الدامية في الطور والخليل والسواحرة وطالت معظم القرى والمدن التي ليست من صلب رمضان لكنها اعراض افات مجتمعية ترافق التوتر العام فيشب الشجار بين الاخوة بعضهم مع بعض وبين الأشقاء واولاد العم وبينهم أولاد عمهم متحدين معا ضد المعارف والجيران والتي نعرفها من المثل العربي : انا على اخوي وانا واخوي على ابن عمي وانا وابن عمي عالغريب!
الانقلاب الاجتماعي الديني في رمضان وما يرافقه من طقوس دينية وما تتطلبه من تحديات وتغيير النمط العادي للحياة والانتقال من الحياة الدنيوية الى الزمن المقدس ترافقه طقوس مهيبه تؤثر على كل مسلم بصورة فردية فلا يمكن التعميم حيث ان كل شخص حالة فردية ووضع نفسي خاص به والذي قد يختلف من لحظة لاخرى فتجد بعض الاشخاص يتوترون من انقلاب ايقاع حياتهم الروتينية لتصبح الطقوس والشعائر الدينية ضغوطات يتحملها بصمت وهدوء تارة وينوء ويثور من ثقل حملها وينفعل عاطفيا في اللحظة التالية وكذلك تجد من يستقبل شهر رمضان صديقا عزيزا يحل بالجوامع والمدينة وفي البيت فتحل بركته وهناك شخصية اخرى تجمع ما بين الزهد الروحاني وحب الآخرين في حركة يصبح فيها الشهر الفضيل شهر الخير والمحبة. ولا غرابة في هذا التأرجح العاطفي الفلسطينيون هم مجموعة أفراد في إطار وجداني عام، لكل فرد من أفراده حياته وتجاربه الخاصة وهوية ذاتية هي نتاج تفاعله مع نفسه ومع الآخرين في ظل إيمانه بوجود قوة عليا.
الفلسطيني ليس مجرد رمزًا للبطولة والشجاعة والكفاح، لكنه وجود مادي، أي أنه إنسان، الفلسطيني يحب ويكره، متسامح وناقم، بسيط السجية ومتعقد، متقلب الأطوار ومسالم ليّن، وحاد الطبع عنيف وكريم النفس أبيها وشحيح ذليل، بسيط متقشف ومتبهرج مولع بمظاهر الوجاهة، مثقف متنوّر وضيق الآفاق محدود البصيرة، وهادئ رزين ومتوتر الأعصاب سهل الاستفزاز سريع الغضب، رقيق الحاشية مفرط العاطفية، متجبر عنيد، ولا غرابة في تناقض الأحاسيس المضطربة بين جوانحه، فالشخصية الذاتية لا تخرج عن كونها سلسلة متعاقبة من الأحاسيس المتناقضة، الفلسطيني مثل سائر أبناء البشر، إنسان أي كائن معقد نلمح جوانبه الإنسانية ,خصالها ومناقبها, في شهر السلام.