- 16 حزيران 2025
- حكايات مقدسية
القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة
في قلب القدس، حيث تتشابك الأزقة كنسيج تاريخي حي، ظهرت آليات مجتمعية ذكية لمواجهة تحديات الحياة اليومية، مثل ضياع الأطفال. في هذا السياق، تجاوز الدلالون دورهم التجاري، ليصبحوا جزءاً من شبكة أمان اجتماعي، يعملون كخرائط بشرية تجمع بين المعرفة المكانية والعلاقات الاجتماعية. تعكس هذه الظاهرة حكمة مجتمعية متجذرة سبقت التكنولوجيا وتشير إلى وسائل تقليدية فعالة في حل المشكلات، رغم تراجعها اليوم.
الدلالون السياق التقليدي
عادة ما يُعرف الدلالون كوسطاء في بيع البضائع، لكن عدداً منهم تجاوز هذا الدور ليشكل حلقة وصل مجتمعية حيوية. غالباً ما يكون هؤلاء من كبار السن أو ممن أمضوا سنوات طويلة في أسواق مثل سوق القطانين أو خان الزيت، مما أكسبهم معرفة عميقة بالأهالي وعلاقاتهم، وأيضاً بالأطفال الذين نشأوا في تلك الأحياء.
مع تعقيد الأزقة في البلدة القديمة التي تشبه المتاهة في كثير من الأحيان، يجد الغرباء صعوبة في التنقل أو إيجاد وجهاتهم. لكن الدلالين يمتلكون خبرة مكانية استثنائية، فهم يعرفون الممرات الضيقة والمداخل الخفية وحتى الأماكن التي قد يختبئ فيها طفل ضائع، مثل محال معينة أو مسجد أو مقاهى اعتاد ارتيادها مع ذويه.
هذا الدور غير الرسمي يجعل منهم مرشدين موثوقين في المواقف الطارئة ويعكس طبيعة الحياة المجتمعية التي كانت تعتمد على المعرفة المحلية والعلاقات الشخصية كوسيلة فعالة لإدارة الحياة اليومية والتعامل مع الأزمات.
نظام البحث
عند فقدان طفل، لا تبادر العائلات فوراً إلى الاتصال بالشرطة، بل تبدأ بخطوات مجتمعية سريعة، حيث يُنقل الخبر شفهياً عبر بائعين معروفين أو أصحاب المقاهي. يتدخل الدلالون بحسب الحي، مستخدمين معرفتهم الدقيقة بالمكان وأهله، وغالباً ما يعرفون الأطفال شخصياً. يعتمد هذا النظام على العلاقات الاجتماعية والتواصل المباشر، ويُفضل في اللحظات الأولى على التدخل الرسمي. رغم تراجع دور الدلالين بسبب التكنولوجيا والمبادرات الحديثة، لا يزال الضجيج الاجتماعي وسيلة فعالة تعكس قوة الروابط والثقة المجتمعية.
روايات من الميدان
قبل نحو عشرين عاماً، كان أبو محمد، بائع بهارات المعروف، يقول إن العثور على طفل ضائع لم يكن يستغرق أكثر من ربع ساعة لا تمر حتى يتحرك أي دلال أو أحد سكان الحي ويعرف مكان الطفل الضائع. في حال وجد شخص ما طفلاً ضائعاً في الأسواق القريبة من باب العامود، يُنقل الطفل عادةً إلى مسجد الشيخ لولو كما هو معتاد، أو إلى مكتب الأحوال في الحرم الشريف. كانت المعرفة الشخصية والروابط الاجتماعية كافية لتتبع أثر الطفل، وكان الجميع يشارك بشكل فوري وعفوي في البحث. أما اليوم، فقد تغير الوضع. يحمل معظم الأطفال هواتف محمولة، مما يسهل التواصل معهم، لكنه قلل من التفاعل المباشر بين أفراد المجتمع. لم تعد الحاجة للبحث الجماعي بالحجم نفسه، وتراجع الاعتماد على الشبكات المحلية غير الرسمية.
مع ذلك، لا تزال بعض المواقف تثبت قوة النسيج المجتمعي. تروي أم يوسف من حارة السعدية قصة ضياع ابن أختها، حيث كان من وجده صاحب محل بقالة في الحارة الذي لم يتجاهل الأمر، وبدأ يسأل الزبائن واحداً تلو الآخر حتى حصل على معلومة ساعدت في العثور على الطفل. مثل هذه القصص تظهر أن الحس الجماعي لا يزال حياً رغم تغير الأدوات، ويبقى الدور الاجتماعي لأصحاب المهن والمارة قائماً، خاصة في المناطق التي ما زالت تحافظ على طابعها التقليدي وروابطها اليومية الوثيقة.
الدلالون كـذاكرة مكانية
كان الدلالون، مثل العم خليل من باب السلسلة، يشكلون شبكة إنذار مبكر غير رسمية في البلدة القديمة، يعتمدون على الثقة والمعرفة الدقيقة بالأهالي والمكان. لم يقتصر دورهم على الوساطة التجارية، بل كانوا عين المجتمع وأذنه، يتابعون التفاصيل اليومية ويتحركون بسرعة في حالات الطوارئ دون تعليمات رسمية. رغم عدم حملهم بطاقات، امتلكوا رصيداً اجتماعياً كبيراً وخبرة متراكمة.
اليوم، ورغم تغير الوسائل بظهور الهواتف والكاميرات والمبادرات التطوعية، لا يزال نموذجهم مرجعاً في فهم الأمن المجتمعي، حيث يظل التواصل الشخصي والمعرفة اليومية أساساً رئيسياً، ويؤكد أهالي القدس بقولهم: البلدة بتعرف بعضها، في إشارة إلى الترابط المجتمعي العميق. كان الدلال هو محرك جوجل في الزمن الماضي، تعبيراً عن دوره المحوري كمصدر للمعلومة والاتجاه، وهو دور لم تستطع التكنولوجيا الحديثة أن تحل مكانه بالكامل.