• 23 حزيران 2025
  • حكايات مقدسية

 

 القدس - أخبار البلد ـ كتب نافذ عسيلة 

في البلدة القديمة، حيث تتداخل قصص التاريخ مع تفاصيل الحياة اليومية، يواصل التنكجي عمله بصبر ومهارة، ممسكاً بمطرقته وصفائح التنك وكأنه يصلح ما أفسده الزمن. هذه الحرفة التقليدية التي شكلت جزءاً من اقتصاد الأحياء القديمة، تواجه اليوم مستقبلاً غامضاً بين التمسك بالتراث وضغط الحداثة.

حرفة التنك لا تقتصر على كونها عملية تقنية، بل يعكس تحولاً ثقافياً في المجتمع المقدسي وهويته، ورغم التحديات، يتمسك الحرفيون بها باعتبارها جزءاً من الذاكرة الجماعية وصورة من صور الصمود اليومي، مما يجعل من التنكجي رمزاً لتراث حي لا يزال ينبض في زوايا البلدة القديمة، رغم محاولات النسيان.

تعد حرفة التنكجي من المهن التقليدية التي كانت مزدهرة قبل انتشار الأدوات المصنوعة من البلاستيك والألمنيوم، إذ كانت مزاريب التنك والكوانين وأواني بائعي الحليب ومحقن زيت الزيتون جزءاً أساسياً من تفاصيل الحياة اليومية داخل أزقة البلدة القديمة. لم تكن هذه الأدوات مجرد أدوات للاستخدام اليومي، بل كانت تمثل نمط حياة قائم على البساطة وحسن استغلال الموارد المتاحة، إلى جانب الاعتماد على المهارة اليدوية والخبرة التي توارثها الناس جيلاً بعد جيل.

تُمثل هذه الحرفة جانباً مهماً من التراث المادي، إذ توثق أساليب الإنتاج والاستهلاك في الماضي وتعكس العلاقة القوية بين الإنسان وبيئته قبل دخول الصناعات الحديثة. كما تحمل في طياتها قيماً اجتماعية، حيث كانت الورش الصغيرة أماكن تجمع وتبادل للخبرات والحكايات واليوم رغم تراجع الحاجة العملية لهذه المنتجات، تبقى حرفة التنكجي شاهداً حياً على تاريخ المدينة ومظهراً من مظاهر التمسك بالهوية في وجه التحولات السريعة التي يشهدها المجتمع.

مع تحول أنماط الاستهلاك واعتماد الناس بشكل متزايد على المنتجات الجاهزة والرخيصة، تراجعت أهمية حرفة التنكجي بشكل كبير، إلا أنها لا تزال قائمة وتخدم شرائح من السكان، خاصة أولئك الذين يفضلون إصلاح أدواتهم المعدنية بدلاً من استبدالها، إما بدافع اقتصادي أو حفاظاً على ما تبقى من روح الماضي.

يعمل التنكجي عادة في دكاكين صغيرة أو ورش بسيطة داخل الأزقة القديمة، مما يجعله جزءاً من الاقتصاد غير الرسمي في المدينة وهو اقتصاد يعتمد على المهارات الفردية والعلاقات المجتمعية أكثر من الاعتماد على البنية الصناعية الكبيرة، وتوفر هذه الحرفة دخلاً متواضعاً للعاملين فيها، لكنها أيضاً تساهم في الحفاظ على التوازن بين الحاجة للعيش والحفاظ على التراث.

في ظل الحداثة والتطور الصناعي، يمثل التنكجي نموذجاً للمقاومة الهادئة، حيث يواجه التجاهل والإهمال بمطرقة وصفيحة تنك، محافظاً على ما تبقى من مهن يدوية تروي قصة مدينة لا تزال تصر على الاحتفاظ بذاكرتها.

يعتمد الحرفي في مهنة التنك على مجموعة من الأدوات التقليدية مثل المطارق والكماشات وأدوات اللحام إلى جانب صفائح التنك المصنوعة من الحديد والمغطاة بطبقة من القصدير والتي تشكل المادة الأساسية للعمل. تتطلب عملية التشكيل والقص واللحام دقة عالية ومهارة يدوية لا تكتسب إلا عبر سنوات طويلة من الممارسة والتجربة.

ورغم بساطة الأدوات، إلا أن العمل يتطلب فهماً عميقاً لخواص المعدن وطريقة التعامل معه دون الإضرار بتركيبته. كما أن كل قطعة يتم إصلاحها أو تصنيعها تمر بعدة مراحل، من القياس والقص إلى التثبيت والتشكيل واللحام، مما يجعل من كل منتج عملاً فنياً صغيراً يحمل بصمة الحرفي.

ولا تقتصر أهمية هذه المهارات على الجانب التقني فقط، بل تمثل أيضاً نوعاً من المعرفة الحية التي تنتقل من جيل إلى آخر وتختزن في طياتها تاريخاً طويلاً من التفاعل بين الإنسان وبيئته، في محاولة دائمة لإعادة تدوير الموارد وإطالة عمر الأدوات بدلاً من التخلص منها.

يُعد التنكجي شخصية مألوفة ومحبوبة في أحياء البلدة القديمة، حيث تربطه علاقة طويلة الأمد مع السكان، خاصة كبار السن الذين ما زالوا يفضلون إصلاح أدواتهم القديمة بدلاً من استبدالها، انطلاقاً من ثقافة تقدر الاستدامة وتحتفي بما هو متوارث، وغالباً ما يعرفه الأهالي بالاسم ويثقون بخبرته ودقته في العمل.

لا تقتصر ورشة التنكجي على كونها مكاناً للعمل، بل تتحول في كثير من الأحيان إلى مساحة مجتمعية صغيرة، حيث يتجمع الجيران لتبادل الأحاديث وتداول الأخبار، فتُصبح الورشة نقطة تواصل اجتماعي، خاصة في ظل تقلص هذه المساحات بفعل التغيرات العمرانية والاجتماعية.

وجود التنكجي بهذا الدور المزدوج كحرفي ومكون اجتماعي يعكس أهمية الحرف التقليدية في الحفاظ على نسيج المدينة الاجتماعي والثقافي ويجعل من ورشته ليس فقط مكاناً لإصلاح الأدوات، بل أيضاً فضاءً للمقاومة الثقافية في وجه العزلة والتهميش.

تواجه حرفة التنكجي تحديات كبيرة تهدد استمرارها، أبرزها انخفاض الطلب نتيجة تغير أنماط الحياة واعتماد الناس على المنتجات الحديثة المصنوعة من البلاستيك أو الألمنيوم والتي تُنتج بكميات ضخمة وتُباع بأسعار زهيدة. كما أن العديد من الشباب يعزفون عن دخول هذا المجال بسبب قلة العائد المادي وصعوبة ظروف العمل، مفضلين الاتجاه نحو مهن أخرى أكثر استقراراً أو عائداً.

تضاف إلى ذلك صعوبات تتعلق بتوافر المواد الخام وغياب الدعم الرسمي أو برامج التدريب التي تضمن نقل المهارات إلى الأجيال الجديدة. كل ذلك يجعل الحرفة في موقع هش، مهددة بالاندثار في حال لم تُبذل جهود حقيقية لإحيائها.

رغم هذه التحديات، يحاول بعض الحرفيين التكيف مع الواقع من خلال ربط الحرفة بقطاع السياحة فيصنعون منتجات تراثية صغيرة كالهدايا التذكارية أو المجسمات الزخرفية التي تجذب الزوار، مستفيدين من اهتمام السياح بالمنتجات اليدوية ذات الطابع المحلي. هذا الدمج بين الحرفة التقليدية والسوق السياحي يوفر فرصة لإعادة إحياء المهنة ضمن سياق اقتصادي جديد، يمكن أن يسهم في الحفاظ على هذا الإرث الحي وتطويره بما يتلائم مع متغيرات العصر.

تُعد حرفة التنكجي رمزاً للبساطة والصمود الاقتصادي في وجه العولمة، إذ تعكس التمسك بأساليب الإنتاج اليدوية والتقليدية في زمن تطغى فيه الآلات وسلاسل الإنتاج السريعة. فهي ليست مجرد مهنة، بل موقف ثقافي يعبر عن رفض الاندماج الكامل في نماذج الاستهلاك الحديثة ويجسد رغبة عميقة في الحفاظ على ما هو أصيل ومتجذر.

المهن القديمة مثل التنكجي تسهم في تثبيت هوية المكان، إذ تحمل في تفاصيلها روح المدينة وشخصيتها التاريخية في القدس تحديداً، تأخذ هذه الحرف بعداً مضاعفاً، فهي تواجه ليس فقط ضغوط الحداثة والعصرنة، بل أيضاً سياسات الاحتلال التي تؤثر على البنية الاجتماعية والثقافية للمدينة، من خلال هذه الحرف، يمكن قراءة التغيرات التي طرأت على المجتمع المقدسي، سواء من حيث العلاقة بالعمل أو التحول في القيم وأنماط العيش.

لذلك، يصبح توثيق هذه الحرفة ضرورة ملحة، ليس فقط من باب الحنين إلى الماضي، بل كجزء أساسي من حفظ التراث اللامادي. إنها مرآة لمرحلة من التاريخ ما زالت آثارها ماثلة وشهادة حية على قدرة الإنسان على التكيف والمقاومة من خلال العمل اليدوي والإبداع اليومي والارتباط العميق بالمكان.