• 19 كانون الثاني 2023
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : سيد عبد الله جباروف *

 

 تحيى جمهورية أذربيجان في 20 يناير من كل عام، ذكرى مرور 32 عاماً على أحداث مذبحة يناير الأسود، والتي قامت فيها قوات الجيش السوفيتي باجتياح العاصمة باكو من جميع الاتجاهات براً وبحراً وجواً، وذلك في ليلة 20 يناير 1990، وأطلقت الدبابات مدافعها الرشاشة تجاه المتظاهرين السلميين المطالبين بالحرية والاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، لكي تحصد أرواح عشرات الأبرياء، في محاولة لإنقاذ النظام الشيوعي من الانهيار الذي حدث بعد شهور قليلة، وتفككت الجمهوريات التابعة له. ان العدوان العسكري الذي شنه جيش الاتحاد السوفيتي السابق على الشعب الأذربيجاني في ذلك اليوم سيظل من أفدح الجرائم المرتكبة ضد شعب أذربيجان خاصة والإنسانية عامة.حيث قُتل وجُرح واعتقل المئات من المدنيين الأبرياء بسبب ذلك العدوان المسلح.

لقد ناضل الأذربيجانيون من أجل الحرية الوطنية والسلامة الإقليمية عشية سقوط النظام الشمولي السوفيتي، فهذه الأحداث الدموية أثبتت مرة أخرى طبيعة النظام الشمولي السوفيتي الإجرامي الأذربيجانيين وللعالم بأسره. 

 ولا شك فيه أنه ليس من الصحيح دراسة وتحليل الأحداث التي وقعت في مدينة باكو في 20 يناير 1990 بشكل منفصل عن العدوان الأرمني على إقليم قراباغ الأذربيجاني ما بين عام 1987 وعام 1990، حيث بدأ الأرمن بمطالبات إقليمية فى منطقة قراباغ، حيث زادت أطماعه في أراضي أذربيجان التاريخية من أجل تحقيق حلمهم"أرمينيا الكبرى". وحتى يتم تحقيق ذلك "الحلم"، فقد استمر الأرمن في نشاطهم العدوانى لضم إقليم قراباغ إلى أرمينيا. حيث توسعت دائرة الحركة الانفصالية فى إقليم قراباغ. وفقًا للخطة الموضوعة منذ زمن طويل. 

 أصدر المجلس التشريعي في قراباغ عام 1988، قراراًغير شرعى يقضي بالانضمام إلى أرمينيا رغم أن إقليم قراباغ يمثل جزءا لا يتجزأ من أراضي أذربيجان وفقا للقانون الدولي، كما انتهك مجلس السوفيت الأعلى لجمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفيتية انتهاكًا صارخًا لسيادة ووحد أراضي أذربيجان، وأصدر قراره غير القانوني الذي ينص على إنضمام  قراباغ إلى أرمينيا الاشتراكية السوفيتية في 1 ديسمبر 1989، ثم وُضعت مؤسسات إقليم قره باغ المتمتع بالحكم الذاتي تحت سيطرة الإدارات ذات الصلة في أرمينيا. 

وتجدر الإشارة إلى أنه بسبب تقاعس المركز السوفيتى المباشر، وفي بعض الأحيان عن رعايته المفتوحة، انفصل إقليم قراباغ المتمتع بالحكم الذاتي عن أذربيجان وتم ضمه إلى أرمينيا بشكل غير قانوني. وغيرت جميع شعارات الدولة لأذربيجان في الإقليم  "العلم الوطني، شعار الدولة، النشيد الوطني، وغيرها "الى شعارات الدولة الأرمينية منتهكة القواعد والمبادئ الرئيسية لقانون الإتحاد السوفيتي والقانون الدولي.أظهرت أرمينيا رسميا ادعاءاتها ضد وحدة أراضي أذربيجان، فلا شك ان الأخطاء الكبيرة للقيادة السوفيتية والسياسة الموالية للأرمن هي التي أدت إلى تدهور الوضع في أواخر عام 1988 وأوائل عام 1989. حيث اتسع نطاق العدوان الأرمني في الإقليم  المتمتع بالحكم الذاتي التابع لجمهورية أذربيجان والمناطق الحدودية بين أذربيجان وأرمينيا، وأدت الأعمال الإرهابية التي ارتكبت في تلك السنوات إلى مقتل المئات من الأذربيجانيين المدنيين.  

 وفى أوائل شهر يناير 1990، قامت قيادة الإتحاد السوفيتي، برئاسة غورباتشوف، بنشر معلومات مضللة مختلفة لأجل إدخال القوات السوفيتية إلى مدينة باكو، بحجة أن الوضع في باكو كان خارج السيطرة وأن الحكم السوفيتى فى آذربيجان في خطر شديد، وفي 19 من يناير 1990، انتهك جورباتشوف دستور الاتحاد السوفيتي بشكل صارخ ووقع مرسوماً بإعلان حالة الطوارئ في باكو اعتباراً من 20 يناير. لكي لا يعلم سكان باكو عن إعلان حالة الطوارئ، وتم تفجير محطة الطاقة في تلفزيون أذربيجان، في 19 يناير الساعة 7:27 مساءً، وتم إيقاف البث التلفزيوني الرسمى في الجمهورية ليلا، فدخلت القوات السوفيتية إلى مدينة باكو دون علم سكانها بإعلان حالة الطوارئ، وتعرض السكان المدنيون لهجمات بلا رحمة!

 لم تصل المعلومات حول إعلان حالة الطوارئ في باكو إلى السكان إلا في 20 يناير الساعة 7 صباحاً  فتم قُتل مئات الأشخاص، وأصيب أكثر 744 شخصاً بجروح خطيرة، وفقد مئات أشخاص، واعتقل أكثر 800 شخص. كذلك دخلت القوات السوفيتية مدينة نفتشالا في 25 يناير، وبعد يوم واحد أيضاً، تم غزو مدينة لانكران، مما أسفر عن مقتل أشخاص مسالمين في كلا المنطقتين. وبالتالي، بلغ عدد القتلى بسبب التدخل العسكري للقوات السوفيتية في باكو ومناطق أخرى في أذربيجان رسميًا 151 شخصاً. 

 تشكل مذبحة 20 يناير، عدواناً وانتهاكاً للقوانين والمواثيق الدولية، حيث قام بارتكاب تلك المذبحة قرابة 26 ألف جندي من الجيش السوفيتي، قاموا بإطلاق الرصاص ونيران مدافع الدبابات في كل اتجاه على المتظاهرين السلميين تحت إسم إنقاذ الدولة الشيوعية من الانهيار والسقوط. 

  وقد ورد في تقرير منظمة شيت "منظمة الخبراء العسكريون الأحرار"، بأن قوات الاتحاد السوفيتي أطلق النار على المواطنيين المدنيين بقسوة ووحشية، ومن مسافة قريبة جداً، فعلى سبيل المثال تم إطلاق النار على روستاموف 23 مرة، وعلى خان محمدوف أكثر من 10 مرات وعلى يروفيج 21 مرة. كما اطلق النار على المستشفيات وعلى سيارات الإسعاف وقتل الأطباء ورجال الشرطة، حيث تم استخدام رصاص من عيار 5.45 من مدفع رشاش "كلاشينكوف". 

  إن غزو قوات الاتحاد السوفيتي للعاصمة باكو، مثل صدمة للشعب الأذربيجاني، ولم يتوقع أحد من أبنائه أن يكون الهجوم بهذه الوحشية والقسوة، خصوصاً وأن آذربيجان لم يقدم للسلطة البلشفية إلا كل خير

وأظهر الزعيم القومي الاذربيجانى الموقف الوطني المشرف مستنكرا  تلك الأحداث المأساوية حيث  أنه في 21 يناير 1990، مباشرةً بعد حدوث هذه المأساة المروعة، زار الزعيم الوطني حيدر علييف مكتب التمثيل الدائم لأذربيجان في موسكو برفقة أفراد أسرته، وأعرب عن تضامنه مع شعبه، وأدان القيادة السوفيتية بشدةٍ لارتكابها تلك المأساة الدموية، واعتبر الأحداث التي وقعت في أذربيجان انتهاكًا للقانون والديمقراطية والإنسانية، ومبادئ بناء الدولة الدستورية. 

 كما وصف الزعيم الوطني حيدر علييف مذبحة يناير بأنها اعتداء على الحقوق السيادية للشعب الأذربيجاني وقال: أعتقد أن المأساة التي وقعت في 20 يناير، كانت نتيجة للخطأ الكبير الذي ارتكبته القيادة السياسية للاتحاد السوفيتي، وتحديداً جورباتشوف وطموحاته الديكتاتورية، فضلاً عن خيانة القيادة الأذربيجانية آنذاك وجرائمها ضد شعبها. فعلى حد علمي، منذ نهاية الحرب الوطنية العظمى، لم تظهر عمليات قتل جماعي بهذه الدرجة من القسوة في الاتحاد السوفيتي في أي مكان، ولا في أي منطقة أخرى. 

  في 20 يناير، سمع العالم بأسره الأخبار عن المذبحة المروعة في باكو. وشهد العالم التدخل العسكري للقوات السوفيتية في باكو، قام العديد من دول العالم وشعوبها الأحرار بالاحتجاج مستنكرين ذلك الغزو الوحشي. وقد أحدثت الجرائم التي ارتكبت في باكو في ردود فعل قاسية في الدول المجاورة وفى الدول العربية والإسلامية، حيث تم تنظيم مسيرات ومظاهرات منددة بتلك الأعمال الوحشية في العديد من دول العالم.

فأما في الدول الغربية 

 نظرا لشعبية زعيم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية ميخائيل جورباتشوف في الغرب، ولأن هذه الجرائم ترتكب في حق شعب مسلم، فإنه لم يصدر أي صوت من الدول الغربية لإدانة هذه الأعمال الدموية، مقارنة بما يحدث في أوكرانيا الآن، لدرجة خروج المتحدثة باسم وزارة الخارجية مارجريت تاتويلر ببيان نيابة عن الحكومة الأمريكية، جاء فيه أن الولايات المتحدة لا ترى ضرورة للتعليق على أحداث يناير في باكو. وأصدرت وزارة الخارجية البريطانية بياناً اعتبرت فيه الوضع في أذربيجان شأن داخلي يخص الاتحاد السوفيتي. 

 وقد تجلت الازدواجية في المعايير، والانحياز الغربي الجائر، أنه تم مكافأة ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي، بمنحه جائزة نوبل للسلام، رغم أنه المتسبب الرئيسي في مذبحة باكو، ولا يخفى على أحد أن هذه الإزدواجية في المعايير، شكلت ظلماً واضحاً ليس بحق الأذربيجانيين وحسب، بل بحق الإنسانية كلها، وقد اعترف غورباتشوف نفسه عام 1995، بخطئه في إعلان حالة الطوارئ في أذربيجان، وإرسال القوات السوفيتية إلى آذربيجان والسماح بالأحداث أن تسير إلى هذا الشكل الدامي.

 برهنت مأساة 20 يناير على قوة ثبات الشعب الأذربيجاني وتصميمه وإرادته الحرة، فعلى الرغم من حظر التجول الذي فرضه الجيش السوفيتي في باكو حينها، نظم الشعب الأذربيجاني مسيرة حاشدة في ميدان أزادليق "الاستقلال" بالمدينة في 22 يناير لإحياء ذكرى شهداء 20 يناير، وحضر مراسم الدفن في ساحة الشهداء قرابة مليوني شخص. 

 كان هذا الحدث التاريخي هو العامل الحاسم في تشكيل الهوية الوطنية الأذربيجانية، كما كان السبب في استعادة الاستقلال الوطني. لقد حولت مأساة يناير حركة التحرير الوطني إلى واقع سياسي ودفعت الشعب الأذربيجاني إلى مضاعفة نضاله من أجل الاستقلال الوطنى. 

أصبحت ذكرى "20 يناير الدامي" مرتبطة بنهاية حكم الاتحاد السوفيتي في أذربيجان وفى جميع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق. حيث استعادت أذربيجان استقلالها في 18 أكتوبر 1991. ويتذكر المواطنون الأذربيجانيون أبنائهم البواسل الذين فقدوا حياتهم لأجل الوطن الغالية ولأجل الحرية والإستقلال، وكما تحيي أذربيجان حكومة وشعباً مأساة "يناير الدامي" فإنه يحيون ذكرى الشهداء الأبطال الذين لقوا حتفهم من أجل الاستقلال، حيث تقام مراسم الحداد في أذربيجان كل عام،في ذلك التوقيت، وتكتسي باكو باللون الأسود. 

 وعند منتصف نهار 20 يناير من كل عام، يقف الجميع على مستوى الدولة دقيقة صمت إحياءً لذكرى شهداء 20 يناير. وتنطلق صافرات الإنذار في السفن والسيارات والقطارات في جميع أنحاء البلاد، وتقام المراسم التذكارية في كافة المدن والبلدات، ويتم تنكيس العلم الوطني فوق كافة المباني. 

 

*رئيس القسم العربي في المجمع التذكاري للإبادة الجماعية ، مدينة قوبا- أذربيجان