- 23 تموز 2024
- أقلام مقدسية
بقلم : الباحث الشيخ مارن اهرام
لقد تشرفت قبل ثلاثة عقود ونيف زيارة دولة الكويت أميرها وأهلها وناسها شعبها الطيب العريق صاحب الكرم والجود وقبل الولوج إلى قصر الأمير وشكره على الحفاوة وحسن الضيافة، عبارة خُطط فوق مصراع باب القصر "لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك"
كتبت على جدران قصر السيف بالكويت منذ العام 1917، وباتت رمزاً للدولة سَامَرَتْ عَيْنِي تلك العبارة وقفت ملياً أتأمل وفي خاطري هاجس يخاطبني عشْ حاضرك لا تتشبث كثيرا بالماضي، حاول ان تشغل نفسك... سوف نغادر اليوم او غداً لذلك لا تضيع وقتك اننا ذاهبون...
عجزت كلماتي عن التعبير وغمرتني مشاعر جياشة عندما قرأت تلك المقولة وهي ذات العبارة المنقوشة منذ عقود طويلة على واجهة القصر نفسه. وتظهر العبارة التي تعد رمزاً بارزاً في الكويت،
هذه كلمات قالها مازحا الشاعر الكويتي المعروف «ملا عابدين باقر»، الملقب بذي الرياستين، لتمكنه من اللغتين العربية والفارسية، ويقال ان من أطلق عليه تلك التسمية هو الشيخ مبارك الصباح، والبيت لا هو بالفارسي ولا بالعربي، ومعناه بالعربية أن الأعناب اسودت بعد أن كانت خضراء، واحلوت بعد ان كانت حامضة.
الملا عابدين هو الذي خط ما هو مدون على بوابة قصر السيف، الذي يثير إعجاب كل من يشاهده : «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك».
فقد كان صاحب خط جميل، وكان يصيغ قصيدة في صديق أو قريب، ويقوم أحيانا بكتابتها بطريقة تقارب وجه من كتب الشعر فيه. وكان له في الخط اسلوب عجيب، حيث يريك زهرة أو رجلا أو أي صورة يشاء مرسومة على الورق، ثم يغطي الورقة فتصبح الصورة آية قرآنية أو بيتا من الشعر أو كلمة كتبت بخط رائع جذاب، وهذا فن أجاده وتفوق فيه.
"لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك" مقولة عربية قديمة، ينسبها البعض إلى الخليفة العباسي المأمون، وآخرون إلى الخليفة المتوكل، وتحث الحاكم في معناها البسيط على العدل والإخلاص وعدم التمسك بالسلطة أو استغلالها لأنها في النهاية ستزول منه كما زالت ممن سبقه ووصلت إليه. ويعتقد أن أول من قال هذه العبارة هو أحمد بن الخليفة هارون الرشيد والذي توفي عام 184 هـ
"لو دامت لغيرك لما اتصلت إليك"، حكمة منقوشة على بلاطة رخامية تستقبلك عند ولوجك إلى السرايا الحكومية في وسط العاصمة اللبنانية.
"لو دامت لغيرك" رفعها الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري الذي كان يعتبر من أهم إنجازات حكوماته إعادة "الروح" إلى دار الحكومة، التي صنعت في غرفها وأروقتها أبرز ما شاهده لبنان من أحداث منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى.
وريثما أتصفح بعضاً من الكتب القديمة التي تضمها مكتبتي المنزلية البسيطة، المتواضعة، سرح خيالي بعيداً فاستذكرت شعراً لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام يقول فيه:
لا دارَ للمرءِ بعد الموتِ يسكنُها إلّا التي كان قبلَ الموتِ بانيها
فإِن بناها بخيرٍ طاب مسكنها وإِن بناها بشرٍ خاب بانيها
أين الملوك التي كانت مسلطةً حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فكم مدائنَ في الآفاق قد بُنيت أمستْ خراباً وأفنى الموتُ أهليها
لا تركنن الى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
هي حكمة تحمل في ثناياها الكثير من المعاني والعظات ومن القصص والحكايات والتي تحمل في طياتها دعوات ما بين حامل امانة ومسؤول عن رعيته وامانته وما بين متجبر متسلط عنيد معنت برائيه وكأنه المهم له هو كرسي دوار
وعن أصل هذا المثل، يقال حكايا أولها تقول ان أحد الوعاظ قالها لأحد الملوك حين جلس في ملكه واستعرض جيشه وإمكانياته المختلفة.
والرواية الثانية تقول إن أحد الطواغيت كتبها على قصره،
والرواية الثالثة تقول إن الامام علي كرم الله وجهه قالها لمعاوية، المهم علينا أن نتذكر آيات الله في كونه وتقليبه لمخلوقاته كيف يشاء يقلب الله الليل والنهار ان في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وان الدائم هو الله سبحانه وكل ما سواه زائل.
(كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام)
غريب امر هذا الكرسي فهو محط انظار عشرات الملايين من البشر وشغلهم الشاغل والحلم الذي لا يفارقهم له سحر خاص تتهافت القلوب بشكل عجيب للوصول اليه لائحة الكراسي قد تطول وقد تلونت تلك الكراس بتلون طالبيها بدأً بكرسي الرئاسة وما دونها
فعجيب غريب أمر صاحب الكرسي دوار كالدنيا تلف وتدور وكأنه كأس لا بد ان يشرب منه ساقيه!
سلوا الكراسي الدوّارة: كم استدارت بالخلق والعفاف والنبل والسماحة والطمأنينة والإنجاز والعلاقات!!
لقد كانت من أكبر أسرار تعاسة الكثيرين من الناس فإياك أن تكون منهم! إما أن تتحمل العبء دون أن تخسر موقعاً كنت فيه مصدراً للسعادة.. فهو الباقي .. وذاك الدوار المخيف الذي لا يستقر عليه أحد
الأمار ة من طلبها أُبتلي بها ومن أُكِلتْ إليه أعانهُ الله عليها البون شاسعُ بين الطالب والمطلوب فالعدل أساس الحكم
وفي تلك الأيام نسمع ونرى في معظم البلدان تفشت حُمى الانتخابات والرئاسة وتعاظمت أحزاب كل يدلوا بدلوه ويجمع أنصاره ومؤيده عبر صناديق الاقتراع ومن لا يحظى بفوز سحيق استولى على الكرسي بقوة القهر والسلاح!!
يرحم الله عمر الفاروق عندما زاره رسول كسرى أنشد حافظ ابراهيم قصيدة عن زُهد الفاروق عمر ابن الخطاب
وراع صاحب كسرى أن رأى عمرا* بين الرعية عطلا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها * سورا من الجند والأحراس يحميها
رآه مستغرقا في نومه فرأى * فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا * ببردة كاد طول العهد يبليها
فهان في عينه ما كان يكبره * من الأكاسر والدنيا بأيديها
وقال قولة حق أصبحت مثلا * وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم * فنمت نوم قرير العين هانيها
لكل حضارة في التاريخ ان تمر بمرحلتي الازدهار والانهيار فبينما يمثل الازدهار مرحلة العنفوان وريعان الشباب،
يمثل الانهيار نهاية العد التنازلي لفناء الحضارة،
أ يا كانت جرت العادة ان الحضارات في انهيارها تكون قد كنست اثار الحضارة السابقة لها في كثير من الاحيان بعوامل الانتصار الى النفس والذات وهكذا تتعاقب الحضارات يئن الوطن من ثقل التجارب وفشلها، لأنها لم تبنى إلا على أنقاض الاخريات لكن المفاجأة هي ان تنهار الحضارة من ذات نفسها، لضعف بنيانها، او ان تخور قواها لتبلغ تمامها وتتساقط كأوراق الشجر من عل، فرع تلو الاخر دون ان تنغض عليها حضارة خالفة؟ ولنا دروس وعبر من خلال استقراء التأريخ
سنة الله في الارض ان الحضارات إذا سادت بادت، و«تلك الايام نداولها بين الناس»، وانه لكل شيء إذا ما تم نقصان، هذه هي الحياة، واليوم نعيش بوضوح زوال الكثير من الانظمة، بعد ان سادت عقوداً طويلة، لم يذكر الناس منها الا الظلم والقهر والقتل والإبادة وحياة السجون وتعليق المشانق! وقد أثبتت الايام ان العدل اساس الحكم، ومتى ما زال العدل زال الحكم! وان طالت لياليه السود!
خلاصة القول قال تعالى
(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن)