• 4 تشرين الثاني 2023
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : تحسين يقين 


لم تتهيأ الفرصة تاريخيا كي يتبنى العالم كله المشروع الوطني الفلسطيني، بإقامة دولة فلسطينية على خطوط الرابع من حزيران عام 1967، كما تتهيأ غي هذه اللحظة التاريخية، التي يجب التقاطها على جميع المستويات، خاصة أنه أيضا لم يكن هناك إجماع فلسطيني كما هو اليوم على هذا المشروع.

وإنها لخسارة استراتيجية لدولة إسرائيل القلقة، والتي لم ولن تشعر باستقرار فعلي، إلا إذا استجابت للمشروع الوطني الفلسطيني، إلا تفعل فليس لها إلا هذا الصراع المتطور والذي لن تربح فيه أبدا، بل إنها تخسر في أيام الحرب ما اجتهدت بخبث في بنائه، أكان ذلك في بناء قوة عسكرية لم تفلح إلا في قتل المدنيين، أو في بناء علاقات مع الحكومات لا مع الشعوب. لذلك ستواجه دولة الاحتلال في كل يوم، وليس فقط بعد انتهاء الحرب على غزة، بسؤال وجودي وسياسي معا: وماذا بعد؟

ما بعد له علاقة بمجمل كل التاريخ، وإن لم تتعلم إسرائيل من التاريخ، فتلك بذور الفناء، تلك فلسفة التعلم من الحياة، فهل ستفضّل إسرائيل التعلم من نفسها، فتصرّ على استخدام القوة المفرطة لتركيع شعب عريق، لا يبدو عليه أنه سيرفع الراية البيضاء.

لا رايات بيض سترفع في فلسطين بعد كل جرائم الحرب التي يتم بثها مباشرة على الهواء، لذلك لربما أن الخلاص الفعلي هو البدء فورا بوقف إطلاق النار، والسماح للعالم بمساعدة شعبنا في غزة، مرورا في إبرام صفقة تبادل للأسرى، يليها تضميد جرح غزة النازفة وإعادة بنائها، والتأكيد على عدم هدمها، عبر عبور إسرائيلي للحل السياسي المجمع عليه عالميا.

كم ستتحمل إسرائيل النازفة من جميع المجالات، وعلى رأسها نزيف الأخلاق، ونزيف البشر، ونزيف المال، لقد بلغت تكلفة الاسابيع الثلاثة الأولى من الحرب على غزة نحو 30 مليار شيكل، والسؤال الجوهري، هل ستخلص إسرائيل من الشعب الفلسطيني؟ وهل تهجير الشعب الفلسطيني وجعله لاجئا سينهي حضوره؟ ألم تجرّب إسرائيل المحتلة ثورات اللاجئين الفلسطينيين؟

بالرغم من تغير خطاب الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل في الغرب الأوروبي، إلا أن ما يجب فعلا أن تقوم به الدول الكبرى هو إلزام إسرائيل بالتوقف، فهناك دوما خطوط حمراء، ولا أحد فوق القانون الدولي الرافض للاحتلال أولا والرافض لقتل المدنيين وحصارهم ثانيا؛ فإن لم تستنكر تلك الدول وتعمل على وقف الإبادة الجماعية اليوم فمتى إذن!

أين يجد الشعب الفلسطيني ساسة كبار يحترمون أنفسهم كقادة، ويحترمون صفة الدولة الكبيرة عريقة الثقافة والفنون والقانون، لينحازوا للحق واضعين حدا لسفك الدماء؟ أليس من الضرورة للسلم الدولي تحقيق ذلك؟

لكن للأسف لم نبتلى بدولة الاحتلال، بل بداعميها بدافع غريب ألا وهو حماية مصالح الدول الكبرى. فهل الشعب الفلسطيني ضد أي مصالح مشروعة لهذه الدول في بناء علاقات في جميع المجالات؟ لنكن أكثر صراحة فنقول إن إسرائيل التي تحمي مصالح أمريكا ودول الغرب بقوة السلاح لا تحميها فعلا، والدليل وجود البارجات في البحار، بل إن صورة تلك الدول مكروهة في بلادنا، وازدادت كراهية، ما يعني أن مصالح تلك الدول ليست بخير الآن وغدا، حيث يصعب في العلاقات الدولية أن تظل أيدي الدول على الزناد؟!

في اليوم الثاني لحل قضية فلسطين حلا عادلا، ترى ماذا سيحدث؟ هل تتأمل تلك الدول فعلا هذا السؤال وهي التي لا يملّ ساستها من الحديث عن مصالحها في المنطقة؟

كيف يمكن تقبل فكرة تهجير شعبنا في غزة؟ كيف يتم الضغط لإجلاء المستشفيات؟ ولماذااا؟ هل حل قضية فلسطين لا تمر طرقها إلا عبر تهجير الشعب؟ ولماذا يعاقب الاحتلال شعبنا بسبب مقاومته؟ ألا ينبغي مرة السؤال لماذا يقاوم شعب فلسطين؟

أسئلة موجعة تدل على سوء خلق المتحكمين الدوليين في مجريات الصراع هنا، والذي يدعم فيه الأقوياء دولة إسرائيل القوية، بل الأقوى في المنطقة، وهي الدولة التي تمارس الاحتلال والاستيطان غير المشروع وتخريب حل الدولتين المجمع عليه دوليا.

ورغم كل هذا القتل المعيب، بل العار الذي لم ينساه أحد، فإن حصاد البيدر لم يأت بحماية الأمن، وبدلا من الحماية، جعلت حكومة اليمين شعبها يدفع ثمن حماقتها.

العودة دوما الى المربع الأول لا تعني امتلاك الحد الأدنى من الحكمة والعقلانية؛ لقد كان على مدار عقود من السنوات أن تبني إسرائيل سلاما حقيقيا، بدلا من رهان واهم، بأن شعبنا سيقبل ما يملى عليه من حلول تنتهك كرامته.

وهكذا راح العناد الإسرائيلي يستعرض ممارسة القوة الغاشمة في الضفة الغربية، والتي تشكل هدفا للسلب، مهددة الجميع، ولسان حالها يقول بأن لها حق الضرب في كل مكان فلسطيني. لقد شجع جنود الاحتلال الإسرائيليين في ممارسة تعذيب الفلسطينيين، فهلا هذا هو الشعب الراقي الذي ينتمي للتحضر فعلا؟

مجازر المعمداني ومخيم جباليا تأتي في سياق الحرب المجزرة، التي صار فيها القتل بالجملة، الذي ينفذ القصف الوحشي طيارون عسكريون المفروض انهم تعلموا قصف المواقع العسكرية لا البشر، ولا أدري كيف يقابل ساسة إسرائيل العالم بتلك الأيدي الملطخة بالدماء فعلا؟

الآن وإن تأخرت الفرصة كثيرا، ما زال هناك مجال للدول الكبرى، والدول العربية بالعمل معا على وقف العدوان، وبالتالي اجتراح خارطة طريق يؤدي الى سلام حقيقي يخلصنا جميعا من الحروب، فليس احترام الشعب الفلسطيني الا بداية التصالح، وهو شعب كأي شعب في العالم له خصوصياته التي ينبغي ممارستها في فضاء مستقل.

سيلعن دم الأبرياء كل من تآمر على قتل الشعب الفلسطيني، ولن يكن بوسع قاتل أو منحاز له وهو داعم له أن يحيا كباقي البشر، حيث سيلاحقه العار حتى داخل أسرته، فما يتم من قتل مناف للفروسية، وما يتم من إعاقة تأمين المساعدات ليس إلا ممارسة لجريمة كون تأخر المساعدات يعني زيادة الألم وشدة الاحتياجات.

ما بعد غزة أسئلة كثيرة، منها ما سيتم تقييمه عربيا عن جدوى العلاقة مع الولايات المتحدة، وعن جدوى أي علاقات تطبيع يمكن أن تتم، بل لربما تتعرض اتفاقيات السلام لإعادة النظر بها، فلا تصبح ولا تمسي إلا حبرا على ورق!

الشعب الفلسطيني حيّ، ولم يمت، ولا يعني ذلك إلا الاستمرار بالحياة، باتجاه تنفيذ حق تقرير المصير، لذلك فإن على المجتمع الدولي اليوم التقاط اللحظة الحاضرة الدموية جدا في تبني المشروع الوطني الفلسطيني والعمل باتجاهه، فإن فعلت ذلك فإنها تكون جادة فعلا في إنهاء حالة الصراع هنا.