• 28 تشرين الثاني 2023
  • أقلام مقدسية

 القدس - أخبار البلد -  في هذه المقالة  نجح الصديق الدكتور علي قليبو  استاذ علم الحضارات في سبر اغوار النفس البشرية التي تتعذب في غزة وان يلخص بكلمات بسيطة معاناتها خاصة وان غزة كانت بالنسبة له ولعائلته وللكثير من العائلات المقدسية المدينة الثانية التي  تربطهم  بغزة وبحرها وبياراتها بعلاقة وثيقة بعد مدينة القدس . واليكم المقالة 

بقلمدعلي قليبو

أرسلت أم أحمد رسالة نصية إلى إبنها أحمد، وهو طالب في السنة الثالثة في جامعة الأزهر في غزة: "اترك كل شيء وعُد إلى المنزل على الفور، لقد بدأت ألحرب"..

وفي غضون أيام قليلة قام أحمد ووالدته وأشقائه الصغار بجمع بعض الملابس على عجلٍ، وحمل قفص طيور الحب خاصته، والوثائق المتعلقة بملكية منزلهم، وذلك بعد إشعارٍ الجيش الإسرائيلي لهم بقصف المنزل ، لم يمهلهم سوى لحظات معدودة، فرّوا من منزلهم في خزاعة للنجاة بحياتهم قبل قصفها إلى منزل أحد أقاربهم في إحدى بيارات خان يونس، حيث يتوفر الطعام والماء.

 شهد يوم 7 تشرين الأولأكتوبر بداية المجزرة الدموية لسكان غزة حين أصبحت الحياة جحيمًا من القنابل الفوسفورية المُحرّمة قانونيًا، وهطلت آلاف الأطنان من المتفجرات على غزة هاشم، فهدمت المنازل الآمنة والأبراج المكتظة والأحياء السكنية برمتها بما فيها من جوامع وكنائس ومدارس، مما ادى الى استشهاد الآلاف من الأطفال وافنت العائلات في الكثير من الأحيان  بل ان عشائر برمتها اختفت  فهلك الأجداد والأمهات والآباء وأطفالهم مع ذريتهم، وتمزّقت جثثهم وتناثرت أياديهم وسيقانهم ومختلف أعضاء جثثهم إربًا إربًا هنا وهناك، وفي كلّ مكان تحت أنقاض مدينة غزة المدمرة التي كانت تعجُّ بالحياة انتشر الموت وتحوّل البشر والشجر والزهور إلى رماد سكني.

"الموت هنا رحمة"، أرسل لي حسين، صديقي البالغ من العمر 32 عاما، رسالة نصية على الواتس آب يصف شظف الحياة في ظل القصف اليومي إثناء حرب طوفان الأقصى:

"يا صديقي ما عاد نفرّق بين الحياة والموت، نحن وعائلتي ننام في غرفة واحدة حتى لو قُصفنا أو قُصف بيت بجانبنا نموت جميعًا ولا يبقى أحد يتحّسر على الآخر"

قرأتُ نعي على الفيسبوك كتبه صديق من غزة -كان قد لجأ مع والدته إلى إسطنبول خلال المحنة العصيبة للحصار الذي دام عشرين عامًا في غزةيصف بإيجاز القتل الجماعي لعائلة مرتجى في غزةوفي تأبينه يذكر والده وأشقائه الأربعة وزوجاتهم وأطفالهم، والذين لقوا حتفهم جميعًا عندما تم تفجير المبنى العائلي المكوّن من أربعة طوابق.

 لا يوجد أصعب من الأثر النفسي في الحياة مع دوي الانفجارات والقصف المتواصل ليلًا نهارًا،

 فيردني الكثير من المكالمات والرسائل الهاتفية، منها لمكالمتي كشخص له جذوره في غزة ويتعاطف معهم ويستمع الىهم في محنتهم التي يمرون بها ، ومنها ما يحمل الكثير من الهلع والذعر الشديدين أملا في الشرود ولو للحظات عن واقعهم كالغارق باليأس الذي يتعلق بقشة و هو يعلم أنها لن تنجية

"ساعدني على الخروج من حمام الدم هذاغزة كابوس رهيب"، كان يعقوب يلهث عبر الهاتف "لقد تم استهداف بنايتنا ولقد هلك والدي وإخوتي وزوجاتهم وأطفالهم جميعا".

  • "ماذا عن زوجتك وأطفالك؟استفسرتأجاب: "لقد أعطينا كل طفل لرعاية أقارب وأصدقاء مختلفين لتجنب تفجيرهم معا". "لقد كتبت أسماؤهم على أجزاء مختلفة من أجسادهم للمساعدة في التعرّف عليهم في حالة تمزيقهم إلى أشلاء أثناء القصف المتواصلصمت برهةً وأضاف: "ابنتي الكبرى تدرس الطب وهي آمنة في القاهرة".
  • "إن شاء الله، سأحاول"، كان عليّ أن أكذب لأنه بصرف النظر عن بعض الكلمات اللطيفة، لا يوجد شيء يمكنني القيام به
  • "سأظل ممتنا إلى الأبد لمساعدتك"، أنهى المحادثة.

تكشف المحن التاريخية الجانب الإيجابي للإنسانففي خضم حمام الدماء وبرغم الحزن الشديد على آلاف الشهداء حيث لم تنجوا عائلة من فقدان عزيز في غزة، فالكل مكلوم الفؤاد، في هذه الظروف  تم تأجيل جميع الأحلام الشخصية، ووضعها بين قوسين، وتجميدهافاضمحل شأن كافة الطموحات الفردية وتم غض النظر عن الإنجازات والأحلام والتطلعات المستقبلية وضعفت التناقضات العاطفية والتوق والشوق والحنين ووهنت الأماني وصرف النظر عن الرغبات والشهوات الخاصة وذلك تلبية لنداء الواجب، رغم من تأصل جذورها في قلوب وأدمغة كل فرد، ولتكتسب تفاصيل توفير الاحتياجات اليومية أهمية متزايدة

كتب صديقي حسين يصف ضغوط الحياة في الحرب فوصف معاناته اليومية:

"شوف يومي باختصاربصحى الساعة 5 صباحا بفتح عيني على طابور العيش...

بخلص الخبز بأخذ قلان المي وبمشي مسافة طويلة عشان أعبي مياه عادية للغسيل والشطف واستعمال الحمامبعدها بوّلع نار إن كان فيه حطب، ما فيه خشب أو حطب بروح أحطّب من الحراش، وهذا بكون خطر لأنه قريب من المواقع العسكرية قبل ثلاث أيام استشهد اثنين أمامنا كانوا بحطبوا خشب وشلنا جثثهمبنولع هالنار، ولو كان فيه طحين بنخبز، ولو ما فيه بنشوف طبخة ما بتستخدم خبز مثل معكرونة أو أي طبخةأغلب الأيام بنعتمد على المعلبات وأغلبها الجبنة الفيتا متوفرة لحد الآنانهلكنا جبنة (يضحك)، بعدها بروح بمشي مسافة كيلو أو كيلو ونص عشان أعبي المياه الحلوة للشربويا عالم لو كان طابور مزدحم ممكن أروّح العشاءأو قبل المغرب أو بعد العشاءعلى حسب حظكهذا يومي باختصار...

بتذكّر أجدادنا لما تهجّرواأحيانا بقول الله يعينهم كيف كانوا متحملينوأحيانا بسرح مع خيالي بعد الحرب إني فعليًا أكون في دولة هادئة خالية من أي حروب وعايش مطمئن البال بدون أي أزمات.  ومع استمرار القصف ارتفعت أسعار الخضروات الطازجة، ولم نأكل الدجاج أو اللحم منذ اندلاع الحرب لأننا بدون كهرباءوبدون ثلاجات، فلا يوجد تخزينالأمور قاتمةالطريقة الوحيدة لمحاربة اليأس هي الاستمرارالعيش لحظة بلحظة، يوما بعد يوم".

وتابع حسين

"ولكن أحكيلك من شو بنخافبنخاف انه فعليا يتم استهداف بيتنا مثلا وما نموت، ونتقطع أشلاء، أي أفقد يد أو قدم أو أي جزء أساسي قي جسديالموت هنا رحمة".

يستمر العمل كالمعتاد، هكذا يقول المثل الإنجليزي فلا بد للحياة أن تستمر، فقبل يومين، اتصّل بي أبو أحمد بطلبٍ خاص يحمل بصيص من الضوء في نهاية النفق الأسودفلقد انهت مطبعة بالقاهرة من طباعة مذكرات ابنه أحمد، والذي كان قد انتقل في بداية الحرب من خزاعة إلى خانيونس يصف الخمسين يومًا الأولى من حرب  طوفان الأقصى وحمل  الكتاب عنوان "الحرب على غزةشاهد على الإبادة الجماعية في العدوان على غزة.

سألني أبو احمد هل بإمكاني مساعدتهم في نشر هذا العمل الأدبي؟

أربكني طلبه، ووجدت نفسي أتمتم تلقائيا: "إن شاء الله!"