• 11 آذار 2024
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : نبهان خريشة 

 

الميناء أو الرصيف البحري الذي ستبنيه الولايات المتحدة على ساحل غزة، بتمويل ودعم خليجي-أوروبي، وبموافقة الحكومة الإسرائيلية (وهي عضو في اللجنة المشرفة عليه)، هو ممر بحري يربط قطاع غزة بقبرص لغرض تسيير قوافل بحرية تحمل المساعدات "الإنسانية" للقطاع، الذي تحاصره إسرائيل وفقا للأطراف القائمة عليه والمشاركة بدعمه.. 

ويأتي قرار بناء الرصيف مع إستمرار إسقاط الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية  مساعدات غذائية من الجو، بعضها يسقط في البحر والبعض الآخر في الأراضي الإسرائيلية، في حين يصل الفتات منها لعدد قليل جدا من عشرات آلاف الأفواه الجائعه، التي يغامر أصحابها للحصول عليها بحياتهم، لاحتمال إصابتهم  برصاص قوات الإحتلال، كما حدث في مجزرة الطحين شمال قطاع غزة، التي ذهب ضحيتها أكثر من مئة وإصابة نحو 700 من الجياع نهاية شباط/فبراير 2024 .   

وترى منظمات إغاثة دولية في إسقاط المساعدات الغذائية تلك جوا، بأنها ليست أكثر من حملات ترويج سياسية، إذ قال عنها  المسؤول في منظمة أوكسفام (سكوت بول) في تغريدة على منصة (إكس) " إن إسقاط المساعدات جوا يعمل في الغالب على إراحة الضمائر المذنبة لكبار المسؤولين الأميركيين، الذين تساهم سياساتهم في استمرار الفظائع المرتكبة في قطاع غزة وخطر المجاعة الذي يتهدده." 

وعلى الرغم من الدعاية التي تضفي على الرصيف البحري في غزة طابعا إنسانيا، إلا أن ظاهره  ليس كباطنه، فهو عمليا حلف أمريكي – أوروبي بمشاركة دول عربية بإمتياز، يسعى لتشكيل اجسام بديلة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لتوزيع المساعدات بعيدا عنها، وقد يستعمل أيضا كممر آمن لإعادة أعداد من سكان القطاع من رفح تمهيدا لاجتياح إسرائيلي لها.             

ومن الأهداف المستترة لإقامة الرصيف، إخلاء ذمة إسرائيل من إبادة قواتها في حربها على قطاع غزة، لأكثر من 30 ألف مواطن فلسطيني وجرح أكثر من 70 ألفا، وتدمير ثلثي المنازل والمنشآت في القطاع، وتسببها بنزوح نحو 75% من سكانه البالغ عددهم 2.3 مليون، 400 ألف منهم يعانون من المجاعة، من خلال تصوير إسرائيل على أنها داعمة للقضايا الإنسانية، هذا بالإضافة إلى أن الرصيف سيعمل على تضليل محكمة العدل الدولية بإظهار التزام دولة الاحتلال بتنفيذ قراراتها  .     

ولتعرض الفلسطينيين للمؤامرات من أكثر من طرف خلال عقود الصراع الطويلة مع إسرائيل، فإن نظرية المؤامرة تحتل حيزا هاما في تفكيرهم الجمعي (وهم فعلا محقون بذلك)، إذ يرى الكثير منهم يرى أنه بالإضافة للأهداف المعلن عنها لإقامة الرصيف، كإيصال المساعدات الإغاثية للقطاع وإنشاء مستشفيات عائمة لعلاج جرحى الحرب، فقد تكون له إستعمالات أخرى غير معلنة، كتشجيع الهجرة  طوعا إلى أوروبا مثلا، أو إخراج معبر رفح البري على الحدود مع مصر(المنفذ الوحيد لغزة مع العالم الخارجي) عن الخدمة، الذي تعتبره إسرائيل منفذا لدخول الأسلحة لحركة حماس. 

الرصيف البحري بخرائط لن يكون مؤقتا، فهو يقع جغرافيا في منطقة حقول الغاز في ساحل غزة المسماة بـ "غزة مارين"، التي يسيل لعاب قادة إسرائيل للسيطرة عليها. والسيطرة على الغاز أمر هام في سياسة الولايات المتحدة، فعندما انسحبت قواتها من العراق في 2011 بقي احتلالها النفطي له، وذات السياسة أتبعت في ليبيا بعرقلة الحل السياسي وتغذية الحرب الأهلية فيها، مع إستمرار إدارة أمريكا للنفط الليبي، وهي ذات السياسة المتبعة في سوريا..    

وما من شك بأن مواقف إدارة بايدن الجديدة تجاه الحرب على غزة، كطلبها من إسرائيل عدم اجتياح رفح قبل إجلاء مئات الآف النازحين من منطقتها، وإقامة الرصيف على ساحل غزة، سببها الظلال الثقيلة التي ألقتها الحرب على الداخل الأمريكي في 2024 ، الذي ستجري فيه الانتخابات الرئاسية الأمريكية. 

فالرئيس بايدن يواجه انتقادات داخلية حادة لدعمه غير المسبوق لإسرائيل، ما أدى بحسب محللين إلى تراجع فرص فوزه بولاية ثانية، هذا إلى جانب ما أثارته الحرب من انشقاقات داخل الحزب الديمقراطي، كما ظهرت جليا في انتخابات الحزب في ولاية ميتشغان، بتصويت أكثر من 100 ألف ناخب بعدم الالتزام بالتصويت له.  

وعلى الرغم من تأكيد بايدن في 2022 ،على أن دور الولايات المتحدة الأمريكية هو تعزيز حقوق الإنسان والقيم المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن دعم إدارته اللامحدود لإسرائيل سياسيا وماليا وعسكريا في حربها على غزة يتناقض مع ذلك تماما، ولهذا فإن تكتيكات إدارته الترقيعية كالممر البحري الإغاثي بين غزة وقبرص لن تساعده في تجاوز أزمته الداخلية بل ستعمقها.

بايدن لم يكن بحاجة لحلول تكتيكية لمعالجة الأوضاع الإنسانية الكارثية في قطاع غزة،  لتجاوز إحتمال عدم فوزه في الانتخابات بفترة رئاسية ثانية، لوضغط فعلا على إسرائيل لوقف إطلاق النار، حتى لو تطلب الأمر التهديد بوقف المساعدات المالية والعسكرية التي تقدمها إدارته لتل أبيب.. 

ومن المؤكد أن الحرب على غزة والفظائع التي ارتكبتها إسرائيل فيها بدعم أمريكي لامحدود وغير مسبوق، ستعيد تشكيل المشهد السياسي الأمريكي الداخلي في نهاية 2024 ، ولن يمنع الرصيف البحري الأمريكي على شاطئ غزة وغيره من التصريحات والمواقف التكتيكية الأخرى من عدم إعادة التشكيل هذا.