- 14 تشرين الثاني 2024
- أقلام مقدسية
بقلم : عزام توفيق أبو السعود
قد يستغرب القارئ ماذا يجمع هذه الأسماء على المستوى الفكري العربي، لكننا إذا نظرنا إلى الواقع التاريخي، والزمن الذي عاش فيه كل منهم سنجد أن الأربعة قد تأثروا وأثروا بالواقع الزمني الذي عاشوا فيه، وبرز دور هام لكل منهم في منهاج الفكر نرى آثاره ونشعر بما أضافوه من فكر تراكمي :
فإبن تيمية مثلا عاش فترة غزو المغول القادمين من أواسط شرق آسيا، بقوة مهولة اندفعوا بها نحو الشرق الأوسط ، دمروا بغداد كحاضرة للعرب والمسلمين، أحرقوا المدينة وأحرقوا مكتباتها وما بها من كتب عبر ستمائة عام من مراحل بنائهم لفكر اسلامي، تأثر لا بل نقل وحافظ على تراث الفكر الغربي عبر ترجمة كتب الإغريق واليونانيين والرومانيين التي كادت أن تندثر، وكان لا بد من أن يظهر في العالم العربي والإسلامي من يقاوم هذه الهجمة المغولية التترية التي مرت كعاصفة .. فكان ظهور ابن تيمية كمقاوم ومتصد للتدمير المقصود وإحياء لفكر جديد مبني على تطوير المنهج الإسلامي الكلاسيكي ليكون فكر مقاومة معطيا تفسيرات جديدة للدين تربطه بالمقاومة والنضال من أجل حفظ الدين والتراث فكانت النتيجة أن انهزم التتار ، لا بل دخل معظمهم في الدين الإسلامي ، ومن هنا فإن فكر المقاومة أصلا بدأه ابن تيمية، بما يتلائم مع الوضع التاريخي القائم والخطر المحدق بالأمة .
أما الشيخ محمد عبده فجاء في فترة انحطاط فكري شامل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد ذهب محمد عبده إلى فرنسا، وعاش فيها سنوات وهو يرى نهضة أوروبية شاملة، أساسها العلم وتطويره لمنفعة الإنسان، وقارن فيه بين ما يحصل في أوروبا التي تنهض ثقافيا وفكريا وصناعيا ، وبين واقع مصر والدول العربية المجاورة لها وبين قوة الأزهر كمركز ديني وفكري يعيش في ظل عصور وسطى من التخلف والنقاشات في سفاسف الأمور دون التفكير بأي محاولة للنهوض بالأمة العربية والإسلامية لتجاري التطور الحاصل في أوروبا ، إضافة إلى سكوته عن محاولات تتريك الأمة العربية، وجعل الأتراك يديرون أمتنا ويحاولون أن يجعلوا لغتهم التركية هي اللغة الأساسية وطمس اللغة العربية.
لذلك قام محمد عبده بحركة نهضة عربية وإسلامية هو ورفيقه جمال الدين الأفغاني ، متأثرين بفكر نهضة الأمم الأوروبية بحركة تهدف إلى وقف التتريك والدخول إلى العالم الفكري الحديث، فكان أن أصبح شيخا للأزهر، يحاول إصلاحه من الداخل رغم معارضة شيوخه التقليديين، فكانوا فعلا نواة النهضة والاصلاح وكانت فتاويه عصرية أو تحاول مجاراة العصر بدون خزعبلات عقيمة دخلت إلى الإسلام من مفاهيم تخلف فكري في العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية.
أما عبد الناصر فجاء بفكر قومي، وحاول من خلاله دمج الفكر الديني لمحمد عبدة الممزوج بفكر قومي وديني يعيد للأمة العربية عصرها الذهبي في الترجمة عن تجارب الأمم السالفة، وإيجاد فكر عربي موحد بعد نكبة فلسطين والشعور بالهزيمة العربية وتغلغل دول الإستعمار في السيطرة على قادة المنطقة وشرائهم للسير في ركاب المستعمر البريطاني والفرنسي الهادف إلى إلى استغلال الشعوب لصالح دول الإستعمار مع إرضاء قادة المنطقة العربية ببعض الفتات من ثروات بلادهم.
تواجه عبد الناصر مع بقايا فكر إبن تيمية المتمثل بنهوض حركة الاخوان المسلمين ، بالرغم من أن عبد الناصر بدأ حياته السياسية متعاونا مع الإخوان المسلمين، والذي سيطر على بعض من أعوان عبد الناصر ، لكن عبد الناصر وجد أن فكر ابن تيمية ومن تبعه من حركات إسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين كان مناسبا للقرن السادس الهجري وغير مناسب للقرن الثالث عشر الهجري، خاصة وأن الإخوان المسلمين حاولوا اغتياله لمنع الفكر القومي من التغلب على الفكر الديني ، أو على الأقل من التوازن بين الفكر الإسلامي والفكر العربي ، خاصة وهم يرون الشعبية العارمة التي حظي بها عبد الناصر بعد تأميم قناة السويس وتحدي الغرب ببناء السد العالي وإقامة نهضة صناعية كبيرة متمثلة بمجمع الحديد والصلب والصناعات التي تبعته، وخاصة أيضا بعد محاولته محاربة الاقطاع وإعادة توزيع الأرض بين الفلاحين في حركة الإصلاح الزراعي ..
ورغم هزيمة حزيران عام 1967، بقيت الشعوب العربية ترى في عبد الناصر هو الأمل لإستعادة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل خاصة وأنه قد بدأ فعلا بالتخلص من مساعديه الذين اعتمد عليهم عسكريا ، وإحلال أشخاص يمكن الوثوق بهم أكثر لإعادة بناء القوة العسكرية المصرية ، والعربية إلى حد ما وأنه أثناء بناء القوة لا بد أن يشغل العدو الصهيوني بحرب استنزاف يشاغلهم بها لحين تكتمل استعداداته لحرب كبرى يستعيد بها للعرب كرامتهم فكان اول من أدخل تعبير حرب الاستنزاف القاموس العسكري العالمي. لكن القدر والموت كانا عائقا لإستمرار نهجه.. لكنه نهج اتسم بثقة الشعب بقائده وإيمانه بأنه مخلصهم.
أما الشخصية الرابعة فكانت شخصية حسن نصر الله ، وهو الشيعي الوحيد بين هذه الشخصيات، والشيعة الموجودة حاليا يتبعون المذهب الديني الخامس وهو المذهب الجعفري، أسوة بالمذاهب السنية الأربعة، الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية، وجميعهم لهم رؤياهم وتفسيراتهم الدينية التي يتبعها المسلمون السنة قاطبة.. وخلافات هؤلاء مع المذهب الشيعي هي خلافات طفيفة تفسيرية ، أساسها أن الشيعة يميزون سلالة علي بن ابي طالب التي تنسب مباشرة للرسول الكريم عن غيرهم، وقد تشكلوا في وقت دبت فيه الخلافات بين المسلمين في نهاية حكم الخلفاء الراشدين بين مؤيد لعلي بن بي طالب وبين معاوية ابن أبي سفيان الذي وصل إلى الخلافة بالخداع، بينما كان غالبية المسلمين يحبون علي بن أبي طالب ويعتبرون معاوية من أرستقراطيي قريش حديثي العهد بالإسلام والذين حاربوا الدعوة الإسلامية في مهدها. تماما كما أحبت الشعوب العربية والاسلامية عبد الناصر بصفته باعث القومية العربية، فقد أحبت هذه الشعوب نصر الله كقومي عروبي مقاوم . ولعلني أذكر في هذا السياق أن المؤتمر الإسلامي الكبير الذي عقد في القدس عام 1931 وضم زعماء مسلمي العالم في كافة أقطارهم والذي كان يهدف إلى مناصرة أهل فلسطين على مواجهة المد الصهيوني المتعلق بالهجرة اليهودية وتملك أراضي فلسطين ، أقول أن الزعماء الدينيين المسلمين في هذا المؤتمر قد اختاروا زعيم شيعة العراق ليخطب بهم خطبة الجمعة ويؤم صلاة الجمعة في المسجد الأقصى أثناء انعقاد المؤتمر المذكور.
حسن نصر الله الشيعي آمن بفكر عبد الناصر القومي وأسلوبه في " وأعدوا لهم العدة" وبأسلوبه في حرب استنزاف العدو ، رغم أن مدينتي السويس والإسماعيلية قد دمرتا أثناء حرب استنزاف عبد الناصر الذي هجّر سكان منطقة القنال، كما فعل نصر الله في لبنان، متحملا الخسارة الكبرى في استيعاب المهجرين. وفكر نصر الله بالتحالف مع الإيرانيين الذي ينتسب لمذهبهم الديني، لكنه تحالف أيضا مع حركة حماس المنبثقة عن حركة الإخوان المسلمين، الذين يعادونه في الفكر الديني من أجل هدف مشترك هو استعادة الأرض المغتصبة، ونصرة أهل غزة ، وبأسلوب عبد الناصر الذي يكرهه الإخوان المسلمين وعادوه واعتبروا أن القومية والفكر القومي معاد للإسلام بشكل عام .
أختم بالقول بأن ابن تيمية تأثر بأفكاره الإخوان المسلمون، وأنا متأكد بأن غالبية المسلمين ربما لم يسمعوا بإبن تيمية أصلا، بينما فكر عبد الناصر قد تأثر بفكر الشيخ محمد عبده، الذي لا يكاد يذكر بين الشعوب العربية أيضا، كما أن فكر حسن نصر الله قد تأثر كثيرا بفكر عبد الناصر الذي لا يعرف الجيل الجديد الكثير عنه هذه الأيام . لكني أود أن أذكر من لا يعرفون التاريخ أن فكر إبن تيمية انتهى بدخول المغول بالإسلام بعد معارك خاضوها مع مقاومين مثل صلاح الدين والمماليك الذين لم يقضوا على التتار فقط بل قضوا على الصليبيين الذين دخلوا مستعمرين باسم الدين فحاربوا المسلمين والروم الأرثوذكس على حد سواء .
ألله أسأل أن يعود الحق إلى نصابه ولا حول ولا قوة إلا بالله!