- 16 تشرين أول 2025
- أقلام مقدسية
بقلم : نواف القديمي*
لي صديق زار القاهرة بعد غياب طويل عنها، سكن في التجمع الخامس وزار بعض المولات والمجمعات السكنية الحديثة، وزار العاصمة الإدارية، ورجع بانطباع أن القاهرة تطورت كثيراً، وأن المولات والمطاعم رغم غلائها تزدحم بالمصريين، وأن الأوضاع الاقتصادية في مصر تحسنت كثيراً عن السابق.. صديق آخر زار إسطنبول لأسبوعين وسكن في مجمع سكني كبير وفخم، فوجد كثيراً من سكانه من السوريين، فقال لي في آخر زيارته: يبدو أن الأوضاع الاقتصادية للسوريين في تركيا جيدة
لا أظن أن أحداً منا لم يسمع من بعض الناس صوراً نمطية فاقعة تجاه شعوب ودول ومناطق وأعراق مبنية على تجارب محدودة، وأحياناً على مجرد انطباعات. وربما لا نسلم نحن أيضاً من تصورات نمطية - حسنة أو سيئة - تجاه آخرين مبنية على مشاهدات جزئية أو انحيازات نفسية.
من أكثر الموضوعات المثارة في السعودية في الأيام الماضية، هي حملات في وسائل التواصل الاجتماعي تُطالب بإقالة وزير الشؤون الاجتماعية، والسبب هو قيام الوزارة بتطوير وتدقيق بيانات مستفيدي برنامج الضمان الاجتماعي للمواطنين (برنامج دعم الفقراء)، الأمر الذي أدى إلى إلغاء اشتراك عدد من المستفيدين بسبب عدم استيفاء المعايير. وهذا يعني توقف وصول المعونات الشهرية لهم.
التصورات السائدة عن "الخليجي الثري" لا تخلوا من نمطية وتشويه - ساهمت السياحة والأفلام في تكريسها - وقصور في معرفة الأوضاع الاقتصادية بدول الخليج، التي تتفاوت بالطبع بين دول محدودة عدد سكان محدود مع موارد مرتفعة، مثل قطر والإمارات والكويت، ودول أخرى لديها وضع مختلف. فالسعودية وعُمان والبحرين تتشابه في كون نسبة المواطنين فيها تزيد عن نسبة المُقيمين، وأن المواطنين بها ينتمون لطبقات اقتصادية متفاوتة، من ضمنها فئات مُنخفضة الدخل وأخرى فقيرة.
المؤشرات والمعلومات في هذا الصدد كثيرة، لكن سأكتفي بالإشارة إلى مُحددين اثنين يعتمدان على مصادر حكومية. الأول هو برنامج "الضمان الاجتماعي"، وهو البرنامج الحكومي المخصص لمحدودي الدخل والفقراء، ولدى البرنامج معايير تخضع لتدقيق دوري في تحديد المُستحقين. البرنامج يُعطي "عائل الأسرة" 1000 ريال شهرياً، فيما يحصل "التابع" على 500 ريال شهرياً، وهذا يعني أن أسرة من خمسة أفراد "أب وأم وثلاثة أبناء" تحصل على 3000 ريال شهرياً، (أي 800 دولار).. السؤال المهم هنا، كم عدد المُستفيدين من برنامج الضمان الاجتماعي؟ الوزارة لا تعلن أرقام إجمالية، ولكن استخلاص أرقام تقريبية ليس بالأمر الصعب، فالحكومة تُعلن عن الدفعة الشهرية لمستفيدي برنامج الضمان الاجتماعي وهي بحدود ال 3 مليار ريال شهرياً، وبحسب متوسط عدد أفراد الأسرة الحالي في السعودية (4.6 فرد في الأسرة)، نكون أمام عدد بين 4.5 و5 مليون مواطن، هم مجموع مستفيدي برنامج الضمان الاجتماعي، أي تقريباً ربع عدد المواطنين في السعودية البالغ 20 مليوناً.
وهناك برنامج آخر للدعم اسمه "حساب المواطن"، وتم إقرار هذا البرنامج بعد رفع الدعم عن مجموعة من الخدمات والسلع الأساسية مثل الكهرباء والماء والبنزين، حيث يتم بيعها الآن بالسعر السوقي، الأمر الذي ضاعف من قيمة الفواتير عدة مرات، فقامت الحكومة بتأسيس برنامج تحت مسمى "حساب المواطن" لدعم الفئات منخفضة الدخل (وفق بيانات حكومية دقيقة عن مستويات الدخل) بحيث تُمنح هذه الفئة نفس الخدمات بالسعر القديم المدعوم، وذلك عبر دفع قيمة الدعم "كاش" في حسابات المواطنين المشمولين بالدعم؛ (أي بدلاً من دعم وتخفيض سعر الكهرباء والماء وبالبنزين للكل، ثم نجد أن معظم الدعم يذهب لفئات مرتاحة اقتصادياً وغير محتاجة للدعم، إضافة إلى غير المواطنين. فقررت الحكومة رفع الدعم عن هذه الخدمات للكل، ثم دعم الفئات المُحتاجة فقط لتحصل عليها بالسعر المدعوم القديم).
عدد المستفيدين من برنامج "حساب المواطن" مُعلن من قبل الحكومة وهو يقارب العشرة ملايين مواطن، أي نصف عدد المواطنين. وبالطبع يمكن للمواطن الفقير أن يتلقى دعماً من برنامج "الضمان الاجتماعي" ودعماً من برنامج "حساب المواطن" في الوقت نفسه.. في المحصلة نحن أمام أرقام حكومية تشير إلى أن ما يقارب من 50% من المواطنين السعوديين هم بين محدودي الدخل "فقراء" ومنخفضي الدخل.. وأظن أن النسب في البحرين وعُمان مُقاربة للسعودية.. وهذا يُفسر أنك - إذا زرتَ هذه البلدان - ستجد سائق الأوبر وموظف الاستقبال وموظف الكاشير وسواهم من مواطني هذه الدول.
هناك في القرى والبلدات والمدن الصغيرة، وحتى على أطراف المدن الكبيرة، فئات اجتماعية من المواطنين تعيش ظروفاً حياتية صعبة، ومن الخطأ بناء تصورات عن أي مجتمع من خلال زيارة المناطق الحديثة والغنية، أو برؤية السياح الذين هم عادة من أصحاب الدخول المرتفعة.
-
كاتب وناشر مقيم في اسطنبول